الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
بحول الله تعالى وقوته، وهي مدنية بإجماع، وروي أنها نزلت منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية. قلت: وفريضة تاسعة عشرة وهي قوله جل وعز {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد} قوله تعالى{يا أيها الذين آمنوا} قال علقمة: كل ما في القرآن }يا أيها الذين آمنوا} فهو مدني و قوله تعالى{أوفوا} يقال: وفى وأوفى لغتان: قال الله تعالى فجمع بين اللغتين. قوله تعالى{بالعقود} العقود الربوط، واحدها عقد؛ يقال: عقدت العهد والحبل، وعقدت العسل فهو يستعمل في المعاني والأجسام؛ قال الحطيئة: فأمر الله سبحانه بالوفاء بالعقود؛ قال الحسن: يعني بذلك عقود الدين وهي ما عقده المرء على نفسه؛ من بيع وشراء وإجارة وكراء ومناكحة وطلاق ومزارعة ومصالحة وتمليك وتخيير وعتق وتدبير وغير ذلك من الأمور، ما كان ذلك غير خارج عن الشريعة؛ وكذلك ما عقده على نفسه لله من الطاعات، كالحج والصيام والاعتكاف والقيام والنذر وما أشبه ذلك من طاعات ملة الإسلام. وأما نذر المباح فلا يلزم بإجماع من الأمة؛ قال ابن العربي. ثم قيل: إن الآية نزلت في أهل الكتاب؛ لقوله تعالى قوله تعالى{أحلت لكم بهيمة الأنعام} الخطاب لكل من ألتزم الإيمان على وجهه وكماله؛ وكانت للعرب سنن في الأنعام من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، يأتي بيانها؛ فنزلت هذه الآية رافعة لتلك الأوهام الخيالية، والآراء الفاسدة الباطلة. واختلف في معنى }بهيمة الأنعام} والبهيمة اسم لكل ذي أربع؛ سميت بذلك لإبهامها من جهة نقص نطقها وفهمها وعدم تمييزها وعقلها؛ ومنه باب مبهم أي مغلق، وليل بهيم، وبهمة للشجاع الذي لا يدرى من أين يؤتى له. و}الأنعام}: الإبل والبقر والغنم، سميت بذلك للين مشيها؛ قال الله تعالى قلت: فعلى هذا يدخل فيها ذوات الحوافر لأنها راعية غير مفترسة وليس كذلك؛ لأن الله تعالى قال قوله تعالى{إلا ما يتلى عليكم} أي يقرأ عليكم في القرآن والسنة من قوله تعالى قوله تعالى{غير محلي الصيد} أي ما كان صيدا فهو حلال في الإحلال دون الإحرام، وما لم يكن صيدا فهو حلال في الحالين. واختلف النحاة في }إلا ما يتلى} هل هو استثناء أو لا ؟ فقال البصريون: هو استثناء من }بهيمة الأنعام} و}غير محلي الصيد} استثناء آخر أيضا منه؛ فالاستثناءان جميعا من قوله{بهيمة الأنعام} وهي المستثنى منها؛ التقدير: إلا ما يتلى عليكم إلا الصيد وأنتم محرمون؛ بخلاف قوله قوله تعالى{وأنتم حرم} يعني الإحرام بالحج والعمرة؛ يقال: رجل حرام وقوم حرم إذا أحرموا بالحج؛ ومنه قول الشاعر: أي ملب، وسمي ذلك إحراما لما يحرمه من دخل فيه على نفسه من النساء والطيب وغيرهما. ويقال: أحرم دخل في الحرم؛ فيحرم صيد الحرم أيضا. وقرأ الحسن وإبراهيم ويحيى بن وثاب }حرم} بسكون الراء؛ وهي لغة تميمية يقولون في رسل: رسل وفي كتب كتب ونحوه. قوله تعالى{إن الله يحكم ما يريد} تقوية لهذه الأحكام الشرعية المخالفة لمعهود أحكام العرب؛ أي فأنت يا محمد السامع لنسخ تلك التي عهدت من أحكامهم تنبه، فإن الذي هو مالك الكل }يحكم ما يريد} {يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب} قوله تعالى{يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله} خطاب للمؤمنين حقا؛ أي لا تتعدوا حدود الله في أمر من الأمور. والشعائر جمع شعيرة على وزن فعيلة. وقال ابن فارس: ويقال للواحدة شعارة؛ وهو أحسن. والشعيرة البدنة تهدى، وإشعارها أن يجز سنامها حتى يسيل منه الدم فيعلم أنها هدي. والإشعار الإعلام من طريق الإحساس؛ يقال: أشعر هديه أي جعل له علامة ليعرف أنه هدي؛ ومنه المشاعر المعالم، واحدها مشعر وهي المواضع التي قد أشعرت بالعلامات. ومنه الشعر، لأنه يكون بحيث يقع الشعور؛ ومنه الشاعر؛ لأنه يشعر بفطنته لما لا يفطن له غيره؛ ومنه الشعير لشعرته التي في رأسه؛ فالشعائر على قول ما أشعر من الحيوانات لتهدى إلى بيت الله، وعلى قول جميع مناسك الحج؛ قال ابن عباس. وقال مجاهد: الصفا والمروة والهدي والبدن كل ذلك من الشعائر. وقال الشاعر: وكان المشركون يحجون ويعتمرون ويهدون فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم؛ فأنزل الله تعالى{لا تحلوا شعائر الله}. وقال عطاء بن أبي رباح: شعائر الله جميع ما أمر الله به ونهى عنه. وقال الحسن: دين الله كله؛ كقوله قلت: وهذا القول هو الراجح الذي يقدم على غيره لعمومه. وقد اختلف العلماء في إشعار الهدي فأجازه الجمهور؛ ثم اختلفوا في أي جهة يشعر؛ فقال الشافعي وأحمد وأبو ثور: يكون في الجانب الأيمن؛ وروي عن ابن عمر. قلت: والذي رأيته منصوصا في كتب علماء الحنفية الإشعار مكروه من قول أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد ليس بمكروه ولا سنة بل هو مباح؛ لأن الإشعار لما كان إعلاما كان سنة بمنزلة التقليد، ومن حيث أنه جرح ومثلة كان حراما، فكان مشتملا على السنة والبدعة فجعل مباحا. ولأبي حنيفة أن الإشعار مثلة وأنه حرام من حيث إنه تعذيب الحيوان فكان مكروها، وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان في أول الابتداء حين كانت العرب تنتهب كل مال إلا ما جعل هديا، وكانوا لا يعرفون الهدي إلا بالإشعار ثم زال لزوال العذر؛ هكذا روي عن ابن عباس. وحكي عن الشيخ الإمام أبي منصور الماتريدي رحمه الله تعالى أنه قال: يحتمل أن أبا حنيفة كره إشعار أهل زمانه وهو المبالغة في البضع على وجه يخاف منه السراية، أما ما لم يجاوز الحد فعل كما كان يفعل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حسن؛ وهكذا ذكر أبو جعفر الطحاوي. فهذا اعتذار علماء الحنفية لأبي حنيفة عن الحديث الذي ورد في الإشعار، فقد سمعوه ووصل إليهم وعلموه؛ قالوا: وعلى القول بأنه مكروه لا يصير به أحد محرما؛ لأن مباشرة المكروه لا تعد من المناسك. قوله تعالى{ولا الشهر الحرام} اسم مفرد يدل على الجنس في جميع الأشهر الحرم وهي أربعة: واحد فرد وثلاثة سرد، يأتي بيانها في }براءة}؛ والمعنى: لا تستحلوها للقتال ولا للغارة ولا تبدلوها؛ فإن استبدالها استحلال، وذلك ما كانوا يفعلونه من النسيء؛ وكذلك قوله{ولا الهدي ولا القلائد} أي لا تستحلوه، وهو على حذف مضاف أي ولا ذوات القلائد جمع قلادة. فنهى سبحانه عن استحلال الهدي جملة، ثم ذكر المقلد منه تأكيدا ومبالغة في التنبيه على الحرمة في التقليد. قوله تعالى{ولا الهدي ولا القلائد} الهدي ما أهدي إلى بيت الله تعالى من ناقة أو بقرة أو شاة؛ الواحدة هدية وهدية وهدي. فمن قال: أراد بالشعائر المناسك قال: ذكر الهدي تنبيها على تخصيصها. ومن قال: الشعائر الهدي قال: إن الشعائر ما كان مشعرا أي معلما بإسالة الدم من سنامه، والهدي ما لم يشعر، اكتفى فيه بالتقليد. وقيل: الفرق أن الشعائر هي البدن من الأنعام. والهدي البقر والغنم والثياب وكل ما يهدى. وقال الجمهور: الهدي عاما في جميع ما يتقرب به من الذبائح والصدقات؛ ومنه واتفقوا فيمن قلد بدنة على نية الإحرام وساقها أنه يصير محرما؛ قال الله تعالى{لا تحلوا شعائر الله} إلى أن قال{فاصطادوا} ولم يذكر الإحرام لكن لما ذكر التقليد عرف أنه بمنزلة الإحرام. فإن بعث بالهدي ولم يسق بنفسه لم يكن محرما؛ ولا يجوز بيع الهدي ولا هبته إذا قلد أو أشعر؛ لأنه قد وجب، وإن مات موجبه لم يورث عنه ونفذ لوجهه؛ بخلاف الأضحية فإنها لا تجب إلا بالذبح خاصة عند مالك إلا أن يوجبها بالقول؛ فإن أوجبها بالقول قبل الذبح فقال: جعلت هذه الشاة أضحية تعينت؛ وعليه؛ إن تلفت ثم وجدها أيام الذبح أو بعدها ذبحها ولم يجز له بيعها؛ فإن كان اشترى أضحية غيرها ذبحهما جميعا في قول أحمد وإسحاق. وقال الشافعي: لا بدل عليه إذا ضلت أو سرقت، إنما الإبدال في الواجب. وروي عن ابن عباس أنه قال: إذا ضلت فقد أجزأت. ومن مات يوم النحر قبل أن يضحي كانت ضحيته موروثة عنه كسائر ماله بخلاف الهدي. وقال أحمد وأبو ثور: تذبح بكل حال. وقال الأوزاعي: تذبح إلا أن يكون عليه دين لا وفاء له إلا من تلك الأضحية فتباع في دينه. ولو مات بعد ذبحها لم يرثها عنه ورثته، وصنعوا بها من الأكل والصدقة ما كان له أن يصنع بها، ولا يقتسمون لحمها على سبيل الميراث. وما أصاب الأضحية قبل الذبح من العيوب كان على صاحبها بدلها بخلاف الهدي، هذا تحصيل مذهب مالك. وقد قيل في الهدي على صاحبه البدل؛ والأول أصوب. والله أعلم. قال أبو الليث السمرقندي: وقوله تعالى{ولا الشهر الحرام} منسوخ بقوله قوله تعالى{ولا آمين البيت الحرام} يعني القاصدين له؛ من قولهم أممت كذا أي قصدته. وقرأ الأعمش{ولا آمي البيت الحرام} بالإضافة كقوله{غير محلي الصيد} والمعنى: لا تمنعوا الكفار القاصدين البيت الحرام على جهة التعبد والقربة؛ وعليه فقيل: ما في هذه الآيات من نهي عن مشرك، أو مراعاة حرمة له بقلادة، أو أم البيت فهو كله منسوخ بآية السيف في قوله ولا بجزار على ظهر وضم باتوا نياما وابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالزلم خدلج الساقين خفاق القدم فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام القضة سمع تلبية حجاج اليمامة فقال: (هذا الحطم وأصحابه) وعلى أن الآية محكمة قوله تعالى{لا تحلوا شعائر الله} يوجب إتمام أمور المناسك؛ ولهذا قال العلماء: إن الرجل إذا دخل في الحج ثم أفسده فعليه أن يأتي بجميع أفعال الحج، ولا يجوز أن يترك شيئا منها وإن فسد حجه؛ ثم عليه القضاء في السنة الثانية. قوله تعالى{يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا} قال فيه جمهور المفسرين: معناه يبتغون الفضل والأرباح في التجارة، ويبتغون مع ذلك رضوانه في ظنهم وطمعهم. وقيل: كان منهم من يبتغي التجارة، ومنهم من يطلب بالحج رضوان الله وإن كان لا يناله؛ وكان من العرب من يعتقد جزاء بعد الموت، وأنه يبعث، ولا يبعد أن يحصل له نوع تخفيف في النار. قال ابن عطية: هذه الآية استئلاف من الله تعالى للعرب ولطف بهم؛ لتنبسط النفوس، وتتداخل الناس، ويردون الموسم فيستمعون القرآن، ويدخل الإيمان في قلوبهم وتقوم عندهم الحجة كالذي كان. وهذه الآية نزلت عام الفتح فنسخ الله ذلك كله بعد عام سنة تسع؛ إذ حج أبو بكر ونودي الناس بسورة }براءة}. قوله تعالى{وإذا حللتم فاصطادوا} أمر إباحة - بإجماع الناس - رفع ما كان محظورا بالإحرام؛ حكاه كثير من العلماء وليس بصحيح، بل صيغة }أفعل} الواردة بعد الحظر على أصلها من الوجوب؛ وهو مذهب القاضي أبي الطيب وغيره؛ لأن المقتضي للوجوب قائم وتقدم الحظر لا يصلح مانعا؛ دليله قوله تعالى قوله تعالى{ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام} أي لا يحملنكم؛ عن ابن عباس وقتادة، وهو قول الكسائي وأبي العباس. وهو يتعدى إلى مفعولين؛ يقال: جرمني كذا على بغضك أي حملني عليه؛ قال الشاعر: وقال الأخفش: أي ولا يحقنكم. وقال أبو عبيدة والفراء: معنى }لا يجرمنكم} أي لا يكسبنكم بغض قوم أن تعتدوا الحق إلى الباطل، والعدل إلى الظلم، معناه كاسب قوت، والصليب الودك، وهذا هو الأصل في بناء ج ر م. قال ابن فارس: يقال جرم وأجرم، ولا جرم بمنزلة قولك: لا بد ولا محالة؛ وأصلها من جرم أي أكتسب، قال: وقال آخر: ويقال: جرم يجرم جرما إذا قطع؛ قال الرماني علي بن عيسى: وهو الأصل؛ فجرم بمعنى حمل على الشيء لقطعه من غيره، وجرم بمعنى كسب لانقطاعه إلى الكسب، وجرم بمعنى حق لأن الحق يقطع عليه. وقال الخليل قوله تعالى{أن تعتدوا في موضع نصب؛ لأنه مفعول به، أي لا يجرمنكم شنآن قوم الاعتداء. وأنكر أبو حاتم وأبو عبيد }شنآن} بإسكان النون؛ لأن المصادر إنما تأتي في مثل هذا متحركة؛ وخالفهما غيرهما وقال: ليس هذا مصدرا ولكنه اسم الفاعل على وزن كسلان وغضبان. قوله تعالى{وتعاونوا على البر والتقوى} قال الأخفش: هو مقطوع من أول الكلام، وهو أمر لجميع الخلق بالتعاون على البر والتقوى؛ أي ليعن بعضكم بعضا، وتحاثوا على ما أمر الله تعالى وأعملوا به، وانتهوا عما نهى الله عنه وامتنعوا منه؛ وهذا موافق لما {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم} قوله تعالى{حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به} تقدم القول فيه كاملا في البقرة. قوله تعالى{والمنخنقة} هي التي تموت خنقا، وهو حبس النفس سواء فعل بها ذلك آدمي أو أتفق لها ذلك في حبل أو بين عودين أو نحوه. وذكر قتادة: أن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة وغيرها فإذا ماتت أكلوها؛ وذكر نحوه ابن عباس. قوله تعالى{والموقوذة} الموقوذة هي التي ترمى أو تضرب بحجر أو عصا حتى تموت من غير تذكية؛ عن ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك والسدي؛ يقال منه: وقذه يقذه وقذا وهو وقيذ. والوقذ شدة الضرب، وفلان وقيذ أي مثخن ضربا. قال قتادة: كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك ويأكلونه. وقال الضحاك: كانوا يضربون الأنعام بالخشب لآلهتهم حتى يقتلوها فيأكلوها، ومنه المقتولة بقوس البندق. وقال الفرزدق: قوله تعالى{والمتردية} المتردية هي التي تتردى من العلو إلى السفل فتموت؛ كان ذلك من جبل أو في بئر ونحوه؛ وهي متفعلة من الردى وهو الهلاك؛ وسواء تردت بنفسها أو رداها غيرها. وإذا أصاب السهم الصيد فتردى من جبل إلى الأرض حرم أيضا؛ لأنه ربما مات بالصدمة والتردي لا بالسهم؛ ومنه الحديث قوله تعالى{والنطيحة} النطيحة فعيلة بمعنى مفعولة، وهي الشاة تنطحها أخرى أو غير ذلك فتموت قبل أن تذكى. وتأول قوم النطيحة بمعنى الناطحة؛ لأن الشاتين قد تتناطحان فتموتان. وقيل: نطيحة ولم يقل نطيح، وحق فعيل لا يذكر فيه الهاء كما يقال: كف خضيب ولحية دهين؛ لكن ذكر الهاء ههنا لأن الهاء إنما تحذف من الفعيلة إذا كانت صفة لموصوف منطوق به؛ يقال: شاة نطيح وامرأة قتيل، فإن لم تذكر الموصوف أثبت الهاء فتقول: رأيت قتيلة بني فلان وهذه نطيحة الغنم؛ لأنك لو لم تذكر الهاء فقلت: رأيت قتيل بني فلان لم يعرف أرجل هو أم امرأة. وقرأ أبو ميسرة }والمنطوحة}. قوله تعالى{وما أكل السبع} يرد كل ما أفترسه ذو ناب وأظفار من الحيوان، كالأسد والنمر والثعلب والذئب والضبع ونحوها، هذه كلها سباع. يقال: سبع فلان فلانا أي عضه بسنه، وسبعه أي عابه ووقع فيه. وفي الكلام إضمار، أي وما أكل منه السبع؛ لأن ما أكله السبع فقد فني. ومن العرب من يوقف اسم السبع على الأسد، وكانت العرب إذا أخذ السبع شاة ثم خلصت منه أكلوها، وكذلك إن أكل بعضها؛ قاله قتادة وغيره وقرأ الحسن وأبو حيوة }السبع} بسكون الباء، وهي لغة لأهل نجد. وقال حسان في عتبة بن أبي لهب: وقرأ ابن مسعود{وأكيلة السَّبُع} وقرأ عبدالله بن عباس{وأكيلِ السبُع}. قوله تعالى{إلا ما ذكيتم} نصب على الاستثناء المتصل، عند الجمهور من العلماء والفقهاء. وهو راجع على كل ما أدرك ذكاته من المذكورات وفيه حياة؛ فإن الذكاة عاملة فيه؛ لأن حق الاستثناء أن يكون مصروفا إلى ما تقدم من الكلام، ولا يجعل منقطعا إلا بدليل يجب التسليم له. روى ابن عيينة وشريك وجرير عن الركين بن الربيع عن أبي طلحة الأسدي قال: سألت ابن عباس عن ذئب عدا على شاة فشق بطنها حتى انتثر قصبها فأدركت ذكاتها فذكيتها فقال: كل وما انتثر من قصبها فلا تأكل. قال إسحاق بن راهويه: السنة في الشاة على ما وصف ابن عباس؛ فإنها وإن خرجت مصارينها فإنها حية بعد، وموضع الذكاة منها سالم؛ وإنما ينظر عند الذبح أحية هي أم ميتة، ولا ينظر إلى فعل هل يعيش مثلها ؟ فكذلك المريضة؛ قال إسحاق: ومن خالف هذا فقد خالف السنة من جمهور الصحابة وعامة العلماء. قلت: وإليه ذهب ابن حبيب وذكر عن أصحاب مالك؛ وهو قول ابن وهب والأشهر من مذهب الشافعي. قال المزني: وأحفظ للشافعي قولا آخر أنها لا تؤكل إذا بلغ منها السبع أو التردي إلى ما لا حياة معه؛ وهو قول المدنيين، والمشهور من قول مالك، وهو الذي ذكره عبدالوهاب في تلقينه، وروي عن زيد بن ثابت؛ ذكره مالك في موطئه، وإليه ذهب إسماعيل القاضي وجماعة المالكيين البغداديين. والاستثناء على هذا القول منقطع؛ أي حرمت عليكم هذه الأشياء لكن ما ذكيتم فهو الذي لم يحرم. قال ابن العربي: اختلف قول مالك في هذه الأشياء؛ فروي عنه أنه لا يؤكل إلا ما ذكي بذكاة صحيحة؛ والذي في الموطأ أنه إن كان ذبحها ونفسها يجري، وهي تضطرب فليأكل؛ وهو الصحيح من قوله الذي كتبه بيده وقرأه على الناس من كل بلد طول عمره؛ فهو أولى من الروايات النادرة. وقد أطلق علماؤنا على المريضة أن المذهب جواز تذكيتها ولو أشرفت على الموت إذا كانت فيها بقية حياة؛ وليت شعري أي فرق بين بقية حياة من مرض، وبقية حياة من سبع لو أتسق النظر، وسلمت من الشبهة الفكر !. وقال أبو عمرو: قد أجمعوا في المريضة التي لا ترجى حياتها أن ذبحها ذكاة لها إذا كانت فيها الحياة في حين ذبحها، وعلم ذلك منها بما ذكروا من حركة يدها أو رجلها أو ذنبها أو نحو ذلك؛ وأجمعوا أنها إذا صارت في حال النزع ولم تحرك يدا ولا رجلا أنه لا ذكاة فيها؛ وكذلك ينبغي في القياس أن يكون حكم المتردية وما ذكر معها في الآية. والله أعلم. قوله تعالى{ذكيتم} الذكاة في كلام العرب الذبح؛ قاله قطرب. وقال ابن سيده في }المحكم] والعرب تقول (ذكاة الجنين ذكاة أمه)؛ قال ابن عطية: وهذا إنما هو حديث. وذكى الحيوان ذبحه؛ ومنه قول الشاعر: قلت: الحديث الذي أشار إليه قوله تعالى{ذكيتم} الذكاة في اللغة أصلها التمام، ومنه تمام السن. والفرس المذكى الذي يأتي بعد تمام القروح بسنة، وذلك تمام استكمال القوة. ويقال: ذكى يذكي، والعرب تقول: جري المذكيات غلاب. والذكاء حدة القلب؛ وقال الشاعر: والذكاء سرعة الفطنة، والفعل منه ذكي يذكى ذكا، والذكوة ما تذكو به النار، وأذكيت الحرب والنار أو قدتهما. وذكاء اسم الشمس؛ وذلك أنها تذكو كالنار، والصحيح ابن ذكاء لأنه من ضوئها. فمعنى }ذكيتم} أدركتم ذكاته على التمام. ذكيت الذبيحة أذكيها مشتقة من التطيب؛ يقال: رائحة ذكية؛ فالحيوان إذا أسيل دمه فقد طيب، لأنه يتسارع إليه التجفيف؛ وفي حديث محمد بن علي رضي الله عنهما }ذكاة الأرض يبسها} يريد طهارتها من النجاسة؛ فالذكاة في الذبيحة لها، وإباحة لأكلها فجعل يبس الأرض بعد النجاسة تطهيرا لها وإباحة الصلاة فيها بمنزلة الذكاة للذبيحة؛ وهو قول أهل العراق. وإذا تقرر هذا فأعلم أنها في الشرع عبارة عن إنهار الدم وفري الأوداج في المذبوح، والنحر في المنحور والعقر في غير المقدور، مقرونا بنية القصد لله وذكره عليه؛ على ما يأتي بيانه. واختلف العلماء فيما يقع به الذكاة؛ فالذي عليه الجمهور من العلماء أن كل ما أفرى الأوداج وأنهر الدم فهو من آلات الذكاة ما خلا السن والعظم؛ على هذا تواترت الآثار، وقال به فقهاء الأمصار. والسن والظفر المنهي عنهما في التذكية هما غير المنزوعين؛ لأن ذلك يصير خنقا؛ وكذلك قال ابن عباس: ذلك الخنق؛ فأما المنزوعان فإذا فريا الأوداج فجائز الذكاة بهما عندهم. وقد كره قوم السن والظفر والعظم على كل حال؛ منزوعة أو غير منزوعة؛ منهم إبراهيم والحسن والليث بن سعد، وروي عن الشافعي؛ وحجتهم ظاهر حديث رافع بن خديج قال: قلت يا رسول الله إنا لاقو العدو غدا وليست معنا مدى - في رواية - فنذكي بالليط ؟. قال مالك وجماعة: لا تصح الذكاة إلا بقطع الحلقوم والودجين. وقال الشافعي: يصح بقطع الحلقوم والمريء ولا يحتاج إلى الودجين؛ لأنهما مجرى الطعام والشراب الذي لا يكون معهما حياة، وهو الغرض من الموت. ومالك وغيره اعتبروا الموت على وجه يطيب معه اللحم، ويفترق فيه الحلال - وهو اللحم - من الحرام الذي يخرج بقطع الأوداج وهو مذهب أبي حنيفة؛ وعليه يدل وأجمع العلماء على أن الذبح مهما كان في الحلق تحت الغلصمة فقد تمت الذكاة؛ واختلف فيما إذا ذبح فوقها وجازها إلى البدن هل ذلك ذكاة أم لا، على قولين: وقد روي عن مالك أنها لا تؤكل؛ وكذلك لو ذبحها من القفا واستوفى القطع وأنهر الدم وقطع الحلقوم والودجين لم تؤكل. وقال الشافعي: تؤكل؛ لأن المقصود قد حصل. وهذا ينبني على أصل، وهو أن الذكاة وإن كان المقصود منها إنهار الدم ففيها ضرب من التعبد؛ واختلفوا فيمن رفع يده قبل تمام الذكاة ثم رجع في الفور وأكمل الذكاة؛ فقيل: يجزئه. وقيل: لا يجزئه؛ والأول أصح لأنه جرحها ثم ذكاها بعد وحياتها مستجمعة فيها. ويستحب إلا يذبح إلا من ترضى حاله، وكل من أطاقه وجاء به على سنته من ذكر أو أنثى بالغ أو غير بالغ جاز ذبحه إذا كان مسلما أو كتابيا، وذبح المسلم أفضل من ذبح الكتابي، ولا يذبح نسكا إلا مسلم؛ فإن ذبح النسك كتابي فقد اختلف فيه؛ ولا يجوز في تحصيل المذهب، وقد أجازه أشهب. وما استوحش من الإنسي لم يجز في ذكاته إلا ما يجوز في ذكاة الإنسي، في قول مالك وأصحابه وربيعة والليث بن سعد؛ وكذلك المتردي في البئر لا تكون الذكاة فيه إلا فيما بين الحلق واللبة على سنة الذكاة. وقد خالف في هاتين المسألتين بعض أهل المدينة وغيرهم؛ وفي الباب قلت: أجاب علماؤنا عن حديث رافع بن خديج بأن قالوا: تسليط النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو على حبسه لا على ذكاته، وهو مقتضى الحديث وظاهره؛ لقوله: (فحبسه) ولم يقل إن السهم قتله؛ وأيضا فإنه مقدور عليه في غالب الأحوال فلا يراعى النادر منه، وإنما يكون ذلك في الصيد. وقد صرح الحديث بأن السهم حبسه وبعد أن صار محبوسا صار مقدورا عليه؛ فلا يؤكل إلا بالذبح والنحر. والله أعلم. وأما حديث أبي العشراء فقد قال فيه الترمذي{حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة، ولا نعرف لأبي العشراء عن أبيه غير هذا الحديث. واختلفوا في اسم أبي الشعراء؛ فقال بعضهم: اسمه أسامة بن قهطم، ويقال: اسمه يسار بن برز - ويقال: بلز - ويقال: اسمه عطارد نسب إلى جده}. فهذا سند مجهول لا حجة فيه؛ ولو سلمت صحته كما قال يزيد بن هارون لما كان فيه حجة؛ إذ مقتضاه جواز الذكاة في أي عضو كان مطلقا في المقدور وغيره، ولا قائل به في المقدور؛ فظاهره ليس بمراد قطعا. وتأويل أبي داود وابن حجيب له غير متفق عليه؛ فلا يكون فيه حجة، والله أعلم. قال أبو عمر: وحجة مالك أنهم قد أجمعوا أنه لو لم يند الإنسي أنه لا يذكى إلا بما يذكى به المقدور عليه، ثم اختلفوا فهو على أصله حتى يتفقوا. وهذا لا حجة فيه؛ لأن إجماعهم إنما انعقد على مقدور عليه، وهذا غير مقدور عليه. ومن تمام هذا الباب قوله تعالى{وما ذبح على النصب} قال ابن فارس{النصب} حجر كان ينصب فيعبد وتصب عليه دماء الذبائح، وهو النصب أيضا. والنصائب حجارة تنصب حوالي شفير البئر فتجعل عضائد، وغبار منتصب مرتفع. وقيل{النصب} جمع، واحده نصاب كحمار وحمر. وقيل: هو اسم مفرد والجمع أنصاب؛ وكانت ثلاثمائة وستين حجرا. وقرأ طلحة }النصب} بجزم الصاد. وروي عن ابن عمر }النصب} بفتح النون وجزم الصاد. الجحدري: بفتح النون والصاد جعله اسما موحدا كالجبل والجمل، والجمع أنصاب؛ كالأجمال والأجبال. قال مجاهد: هي حجارة كانت حوالي مكة يذبحون عليها. قال ابن جريج: كانت العرب تذبح بمكة وتنضح بالدم ما أقبل من البيت، ويشرحون اللحم ويضعونه على الحجارة؛ فلما جاء الإسلام قال المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن أحق أن نعظم هذا البيت بهذه الأفعال، فكأنه عليه الصلاة والسلام لم يكره ذلك؛ فأنزل الله تعالى وقيل{على} بمعنى اللام؛ أي لأجلها؛ قال قطرب قال ابن زيد: ما ذبح على النصب وما أهل به لغير الله شيء واحد. قال ابن عطية: ما ذبح على النصب جزء مما أهل به لغير الله، ولكن خص بالذكر بعد جنسه لشهرة الأمر وتشرف الموضع وتعظيم النفوس له. قوله تعالى{وأن تستقسموا بالأزلام} معطوف على ما قبله، و}أن} في محل رفع، أي وحم عليكم الاستقسام. والأزلام قداح الميسر، واحدها زلم وزلم؛ قال: وقال آخر، فجمع: وذكر محمد بن جرير: أن ابن وكيع حدثهم عن أبيه عن شريك عن أبي حصين عن سعيد بن جبير أن الأزلام حصى بيض كانوا يضربون بها. قال محمد بن جرير: قال لنا سفيان بن وكيع: هي الشطرنج. فأما قول لبيد: فقالوا: أراد أظلاف البقرة الوحشية. والأزلام العرب ثلاثة أنواع: منها الثلاثة التي كان يتخذها كل إنسان لنفسه، على أحدها أفعل، وعلى الثاني لا تفعل، والثالث مهمل لا شيء عليه، فيجعلها في خريطة معه، فإذا أراد فعل شيء أدخل يده - وهي متشابهة - فإذا خرج أحدها ائتمر وانتهى بحسب ما يخرج له، وإن خرج القدح الذي لا شيء عليه أعاد الضرب؛ وهذه هي التي ضرب بها سراقة بن مالك بن جعشم حين أتبع النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وقت الهجرة؛ وإنما قيل لهذا الفعل: استقسام لأنهم كانوا يستقسمون به الرزق وما يريدون؛ كما يقال: الاستسقاء في الاستدعاء للسقي. ونظير هذا الذي حرمه الله تعالى قول المنجم: لا تخرج من أجل نجم كذا، وأخرج من أجل نجم كذا. وقال جل وعز والنوع الثاني: سبعة قداح كانت عند هبل في جوف الكعبة مكتوب عليها ما يدور بين الناس من النوازل، كل قدح منها فيه كتاب؛ قدح فيه العقل من أم الديات، وفي آخر }منكم} وفي آخر }من غيركم}، وفي آخر }ملصق}، وفي سائرها أحكام المياه وغير ذلك، وهي التي ضرب بها عبدالمطلب على بنيه إذ كان نذر نحر أحدهم إذا كملوا عشرة؛ الخبر المشهور ذكره ابن إسحاق. وهذه السبعة أيضا كانت عند كل كاهن من كهان العرب وحكامهم؛ على نحو ما كانت في الكعبة عند هبل. النوع الثالث: هو قداح المسير وهي عشرة؛ سبعة منها فيها حظوظ، وثلاثة أغفال، وكانوا يضربون بها مقام لهوا ولعبا، وكان عقلاؤهم يقصدون بها إطعام المساكين والمعدم في زمن الشتاء وكلب البرد وتعذر التحرف. وقال مجاهد: الأزلام هي كعاب فارس والروم التي يتقامرون بها. وقال سفيان ووكيع: هي الشطرنج؛ فالاستقسام بهذا كله هو طلب القسم والنصيب كما بينا؛ وهو من أكل المال بالباطل، وهو حرام، وكل مقامرة بحمام أو بنرد أو شطرنج أو بغير ذلك من هذه الألعاب فهو استقسام بما هو في معنى الأزلام حرام كله؛ وهو صرب من التكهن والتعرض لدعوى علم الغيب. قال ابن خويز منداد: ولهذا نهى أصحابنا عن الأمور التي يفعلها المنجمون على الطرقات من السهام التي معهم، ورقاع الفأل في أشباه ذلك. وقال الكيا الطبري: وإنما نهى الله عنها فيما يتعلق بأمور الغيب؛ فإنه لا تدري نفس ماذا يصيبها غدا، فليس للأزلام في تعريف المغيبات أثر؛ فاستنبط بعض الجاهلين من هذا الرد على الشافعي في الإقراع بين المماليك في العتق، ولم يعلم هذا الجاهل أن الذي قاله الشافعي بني على الأخبار الصحيحة، وليس مما يعترض عليه بالنهي عن الاستقسام بالأزلام؛ فإن العتق حكم شرعي، يجوز أن يجعل الشرع خروج القرعة علما على إثبات حكم العتق قطعا للخصومة، أو لمصلحة يراها، ولا يساوي ذلك قول القائل: إذا فعلت كذا أو قلت كذا فذلك يدلك في المستقبل على أمر من الأمور، فلا يجوز أن يجعل خروج القداح علما على شيء يتجدد في المستقبل، ويجوز أن يجعل خروج القرعة علما على العتق قطعا؛ فظهر افتراق البابين. وليس من هذا الباب طلب الفأل، وكان عليه الصلاة والسلام يعجبه أن يسمع يا راشد يا نجيح؛ قوله تعالى{ذلكم فسق} إشارة إلى الاستقسام بالأزلام. والفسق الخروج، وقد تقدم. وقيل يرجع إلى جميع ما ذكر من الاستحلال لجميع هذه المحرمات، وكل شيء منها فسق وخروج من الحلال إلى الحرام، والانكفاف عن هذه المحرمات من الوفاء بالعقود، إذ قال قوله تعالى{اليوم يئس الذين كفروا من دينكم} يعني أن ترجعوا إلى دينهم كفارا. قال الضحاك: نزلت هذه الآية حين فتح مكة؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة لثمان بقين من رمضان سنة تسع، ويقال: سنة ثمان، ودخلها ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم }إلا من قال لا إله إلا الله فهو آمن، ومن وضع السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن}. وفي }يئس} لغتان، يئس ييأس يأسا، وأيس يأيس إياسا وإياسة؛ قاله النضر بن شميل. }فلا تخشوهم واخشوني} أي لا تخافوهم وخافوني فإني أنا القادر على نصركم. قوله تعالى{اليوم أكملت لكم دينكم} وذلك قلت: القول الأول أصح، أنها نزلت في يوم جمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة على ناقته العضباء، فكاد عضد الناقة ينقد من ثقلها فبركت. و}اليوم} قد يعبر بجزء منه عن جميعه، وكذلك عن الشهر ببعضه؛ تقول: فعلنا في شهر كذا وكذا وفي سنة كذا كذا، ومعلوم أنك لم تستوعب الشهر ولا السنة؛ وذلك مستعمل في لسان العرب والعجم. والدين عبارة عن الشرائع التي شرع وفتح لنا؛ فإنها نزلت نجوما وآخر ما نزل منها هذه الآية، ولم ينزل بعدها حكم، قاله ابن عباس والسدي. وقال الجمهور: المراد معظم الفرائض والتحليل والتحريم، قالوا: وقد نزل بعد ذلك قرآن كثير، ونزلت آية الربا، ونزلت آية الكلالة إلى غير ذلك، وإنما كمل معظم الدين وأم الحج، إذا لم يطف معهم في هذه السنة مشرك، ولا طاف بالبيت عريان، ووقف الناس كلهم بعرفة. وقيل{أكملت لكم دينكم} بأن أهلكت لكم عدوكم وأظهرت دينكم على الدين كله كما تقول: قد تم لنا ما نريد إذا كفيت عدوك. قوله تعالى{وأتممت عليكم نعمتي} أي بإكمال الشرائع والأحكام وإظهار دين الإسلام كما وعدتكم، إذ قلت لعل قائلا يقول: قوله تعالى{اليوم أكملت لكم دينكم} يدل على أن الدين كان غير كامل في وقت من الأوقات، وذلك يوجب أن يكون جميع من مات من المهاجرين والأنصار والذين شهدوا بدرا والحديبية وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعتين جميعا، وبذلوا أنفسهم لله مع عظيم ما حل بهم من أنواع المحن ماتوا على دين ناقص، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك كان يدعو الناس إلى دين ناقص، ومعلوم أن النقص عيب، ودين الله تعالى قيم، كما قال تعالى أحدهما: أن يكون المراد بلغته أقصى الحد الذي كان له عندي فيما قضيته وقدرته، وذلك لا يوجب أن يكون ما قبل ذلك ناقصا نقصان عيب، لكنه يوصف بنقصان مقيد فيقال له: إنه كان ناقصا عما كان عند الله تعالى أنه ملحقه به وضامه إليه؛ كالرجل يبلغه الله مائة سنة فيقال: أكمل الله عمره؛ ولا يجب عن ذلك أن يكون عمره حين كان ابن ستين كان ناقصا نقص قصور وخلل؛ والوجه الآخر: أنه أراد بقوله{اليوم أكملت لكم دينكم} أنه وفقهم للحج الذي لم يكن بقي عليهم من أركان الدين غيره، فحجوا؛ فاستجمع لهم الدين أداء لأركانه وقياما بفرائضه؛ قوله تعالى{ورضيت لكم الإسلام دينا} أي أعلمتكم برضاي به لكم دينا؛ فإنه تعالى لم يزل راضيا بالإسلام لنا دينا؛ فلا يكون لاختصاص الرضا بذلك اليوم فائدة إن حملناه على ظاهره. و}دينا} نصب على التمييز، وإن شئت على مفعول ثان. وقيل: المعنى ورضيت عنكم إذا أنقدتم لي بالدين الذي شرعته لكم. ويحتمل أن يريد }رضيت لكم الإسلام دينا} أي ورضيت إسلامكم الذي أنتم عليه اليوم دينا باقيا بكماله إلى آخر الآية لا أنسخ منه شيئا. والله أعلم. و}الإسلام} في هذه الآية هو الذي في قوله تعالى قوله تعالى{فمن اضطر في مخمصة} يعني من دعته ضرورة إلى أكل الميتة وسائر المحرمات في هذه الآية. والمخمصة الجوع وخلاء البطن من الطعام. والخمص ضمور البطن. ورجل خميص وخمصان وامرأة خميصة وخمصانة؛ ومنه أخمص القدم، ويستعمل كثيرا في الجوع والغرث؛ قال الأعشى: أي منطويات على الجوع قد أضمر بطونهن. وقال النابغة في خمص البطن من جهة ضمره: قوله تعالى{غير متجانف لإثم} أي غير مائل لحرام، وهو بمعنى أراد لم أصنعه فحذف. والله أعلم. {يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب} قوله تعالى{يسألونك} الآية نزلت بسبب عدي بن حاتم وزيد بن مهلهل وهو زيد الخيل الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير؛ قالا: يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة، وإن الكلاب تأخذ البقر والحمر والظباء فمنه ما ندرك ذكاته، ومنه ما تقتله فلا ندرك ذكاته، وقد حرم الله الميتة فماذا يحل لنا ؟ فنزلت الآية. قوله تعالى{ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات} }ما} في موضع رفع بالابتداء، والخبر }أحل لهم} و}ذا} زائدة، وإن شئت كانت بمعنى الذي، ويكون الخبر }قل أحل لكم الطيبات} وهو الحلال، وكل حرام فليس بطيب. وقيل: ما التذه آكله وشاربه ولم يكن عليه فيه ضرر في الدنيا ولا في الآخرة. وقيل: الطيبات الذبائح، لأنها طابت بالتذكية. قوله تعالى{وما علمتم} أي وصيد ما علمتم؛ ففي الكلام إضمار لا بد منه، ولولاه لكان المعنى يقتضي أن يكون الحل المسؤول عنه متناولا للمعلم من الجوارح المكلبين، وذلك ليس مذهبا لأحد؛ فإن الذي يبيح لحم الكلب فلا يخصص الإباحة بالمعلم؛ وسيأتي ما للعلماء في أكل الكلب في }الأنعام} إن شاء الله تعالى. وقد ذكر بعض من صنف في أحكام القرآن أن الآية تدل على أن الإباحة تتناول ما علمناه من الجوارح، وهو ينتظم الكلب وسائر جوارح الطير، وذلك يوجب إباحة سائر وجوه الانتفاع، فدل على جواز بيع الكلب والجوارح والانتفاع بها بسائر وجوه المنافع إلا ما خصه الدليل، وهو الأكل من الجوارح أي الكواسب من الكلاب وسباع الطير؛ وكان لعدي كلاب خمسة قد سماها بأسماء أعلام، وكان أسماء أكلبه سلهب وغلاب والمختلس والمتناعس، قال السهيلي: وخامس أشك، قال فيه أخطب، أو قال فيه وثاب. أجمعت الأمة على أن الكلب إذا لم يكن أسود وعلمه مسلم فينشلي إذا أشلي ويجيب إذ دعي، وينزجر بعد ظفره بالصيد إذا زجر، وأن يكون لا يأكل من صيده الذي صاده، وأثر فيه بجرح أو تنييب، وصاد به مسلم وذكر اسم الله عند إرساله أن صيده صحيح يؤكل بلا خلاف؛ فإن انخرم شرط من هذه الشروط دخل الخلاف. فإن كان الذي يصاد به غير كلب كالفهد وما أشبهه وكالبازي والصقر ونحوهما من الطير فجمهور الأمة على أن كل ما صاد بعد التعليم فهو جارح كاسب. يقال: جرح فلان واجترح إذا اكتسب؛ ومنه الجارحة لأنها يكتسب بها، ومنه اجتراح السيئات. وقال الأعشى: وفي التنزيل قوله تعالى{مكلبين} معنى }مكلبين} أصحاب الكلاب وهو كالمؤدب صاحب التأديب. وقيل: معناه مضرين على الصيد كما تضرى الكلاب؛ قال الرماني: وكلا القولين محتمل. وليس في }مكلبين} دليل على أنه إنما أبيح صيد الكلاب خاصة؛ لأنه بمنزلة قوله{مؤمنين} وإن كان قد تمسك به من قصر الإباحة على الكلاب خاصة. روي عن ابن عمر فيما حكى ابن المنذر عنه قال: وأما ما يصاد به من البزاة وغيرها من الطير فما أدركت ذكاته فذكه فهو لك حلال، وإلا فلا تطعمه. قال ابن المنذر: وسئل أبو جعفر عن البازي يحل صيده قال: لا؛ إلا أن تدرك ذكاته. وقال الضحاك والسدي{وما علمتم من الجوارح مكلبين} هي الكلاب خاصة؛ فإن كان الكلب أسود بهيما فكره صيده الحسن وقتادة والنخعي. وقال أحمد: ما أعرف أحدا يرخص فيه إذا كان بهيما؛ وبه قال إسحاق بن راهويه؛ فأما عوام أهل العلم بالمدينة والكوفة فيرون جواز صيد كل كلب معلم، أما من منع صيد الكلب الأسود وإذا تقرر هذا فأعلم أنه لا بد للصائد أن يقصد عند الإرسال التذكية والإباحة، وهذا لا يختلف فيه؛ لقوله قرأ الجمهور }علمتم} بفتح العين واللام. وابن عباس ومحمد بن الحنفية بضم العين وكسر اللام، أي من أمر الجوارح والصيد بها. والجوارح الكواسب، وسميت أعضاء الإنسان جوارح لأنها تكسب وتتصرف. وقيل: سميت جوارح لأنها تجرح وتسيل الدم، فهو مأخوذ من الجراح، وهذا ضعيف، وأهل اللغة على خلافه، وحكاه ابن المنذر عن قوم. و}مكلبين} قراءة الجمهور بفتح الكاف وشد اللام، والمكلب معلم الكلاب ومضريها. ويقال لمن يعلم غير الكلب: مكلب؛ لأنه يرد ذلك الحيوان كالكلب؛ حكاه بعضهم. ويقال للصائد: مكلب فعلى هذا معناه صائدين. وقيل: المكلب صاحب الكلاب، يقال: كلب فهو مكلب وكلاب. وقرأ الحسن }مكلبين} بسكون الكاف وتخفيف اللام، ومعناه أصحاب كلاب، يقال: أمشى الرجل كثرت ماشيته، وأكلب كثرت كلابه، وأنشد الأصمعي: قوله تعالى{تعلمونهن مما علمكم الله} أنث الضمير مراعاة للفظ الجوارح؛ إذ هو جمع جارحة. ولا خلاف بين العلماء في شرطين في التعليم وهما: أن يأتمر إذا أمر وينزجر إذا زجر؛ لا خلاف في هذين الشرطين في الكلاب وما في معناها من سباع الوحوش. واختلف فيما يصاد به من الطير؛ فالمشهور أن ذلك مشترط فيها عند الجمهور. وذكر ابن حبيب أنه لا يشترط فيها أن تنزجر إذا زجرت؛ فإنه لا يتأتى ذلك فيها غالبا، فيكفي أنها إذا أمرت أطاعت. وقال ربيعة: ما أجاب منها إذا دعي فهو المعلم الضاري؛ لأن أكثر الحيوان بطبعه ينشلي. وقد شرط الشافعي وجمهور من العلماء في التعليم أن يمسك على صاحبه، ولم يشترطه مالك في المشهور عنه. وقال الشافعي: المعلم هو الذي إذا أشلاه صاحبه انشلى؛ وإذا دعاه إلى الرجوع رجع إليه، ويمسك الصيد على صاحبه ولا يأكل منه؛ فإذا فعل هذا مرارا وقال أهل العرف: صار معلما فهو المعلم. وعن الشافعي أيضا والكوفيين: إذا أشلي فانشلى وإذا أخذ حبس وفعل ذلك مرة بعد مرة أكل صيده في الثالثة. ومن العلماء من قال: يفعل ذلك ثلاث مرات ويؤكل صيده في الرابعة. ومنهم من قال: إذا فعل ذلك مرة فهو معلم ويؤكل صيده في الثانية. قوله تعالى{فكلوا مما أمسكن عليكم} أي حبسن لكم. واختلف العلماء في تأويله؛ فقال ابن عباس وأبو هريرة والنخعي وقتادة وابن جبير وعطاء بن أبي رباح وعكرمة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور والنعمان وأصحابه: المعنى ولم يأكل؛ فإن أكل لم يؤكل ما بقي، لأنه أمسك على نفسه ولم يمسك على ربه. والفهد عند أبي حنيفة وأصحابه كالكلب ولم يشترطوا ذلك في الطيور بل يؤكل ما أكلت منه. وقال سعد بن أبي وقاص وعبدالله بن عمر وسلمان الفارسي وأبو هريرة أيضا: المعنى وإن أكل؛ فإذا أكل الجارح كلبا كان أو فهدا أو طيرا أكل ما بقي من الصيد وإن لم يبق إلا بضعة؛ وهذا قول مالك وجميع أصحابه، وهو القول الثاني للشافعي، وهو القياس. وفي الباب حديثان بمعنى ما ذكرنا أحدهما: والجمهور من العلماء عل أن الجارح إذا شرب من دم الصيد أن الصيد يؤكل؛ قال عطاء: ليس شرب الدم بأكل؛ وكره أكل ذلك الصيد الشعبي وسفيان الثوري، ولا خلاف بينهم أن سبب إباحة الصيد الذي هو عقر الجارح له لا بد أن يكون متحققا غير مشكوك فيه، ومع الشك لا يجوز الأكل، وهي: فإن وجد الصائد مع كلبه كلبا آخر فهو محمول على أنه غير مرسل من صائد آخر، وأنه إنما انبعث في طلب الصيد بطبعه ونفسه، ولا يختلف في هذا؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل - في رواية - فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره). فأما لو أرسله صائد آخر فاشترك الكلبان فيه فإنه للصائدين يكونان شريكين فيه. فلو أنفذ أحد الكلبين مقاتله ثم جاء الآخر فهو للذي أنفذ مقاتله، وكذلك لا يؤكل ما رمي بسهم فتردى من جبل أو غرق في ماء؛ لو مات الصيد في أفواه الكلاب من غير بضع لم يؤكل؛ لأنه مات خنقا فأشبه أن يذبح بسكين كالة فيموت في الذبح قبل أن يفرى حلقه. ولو أمكنه أخذه من الجوارح وذبحه فلم يفعل حتى مات لم يؤكل، وكان مقصرا في الذكاة؛ لأنه قد صار مقدورا على ذبحه، وذكاة المقدور عليه تخالف ذكاة غير المقدور عليه. ولو أخذه ثم مات قبل أن يخرج السكين، أو تناولها وهي معه جاز أكله؛ ولو لم تكن السكين معه فتشاغل بطلبها لم تؤكل. وقال الشافعي: فيما نالته الجوارح ولم تدمه قولان أحدهما: إلا يؤكل حتى يجرح؛ لقوله تعالى{من الجوارح} وهو قول ابن القاسم؛ والآخر: أنه حر وهو قول أشهب، قال أشهب: إن مات من صدمة الكلب أكل. قوله: وقد اختلف العلماء في أكل الصيد الغائب على ثلاثة أقوال: يؤكل، وسواء قتله السهم أو الكلب. الثاني: لا يؤكل شيء من ذلك إذا غاب؛ واختلف العلماء من هذا الباب في الصيد بكلب اليهودي والنصراني إذا كان معلما، فكرهه الحسن البصري؛ وأما كلب المجوسي وبازه وصقره فكره الصيد بها جابر بن عبدالله والحسن وعطاء ومجاهد والنخعي والثوري وإسحاق، وأجاز الصيد بكلابهم مالك والشافعي وأبو حنيفة إذا كان الصائد مسلما؛ قالوا: وذلك مثل شفرته. وأما إن كان الصائد من أهل الكتاب فجمهور الأمة على جواز صيده غير مالك، وفرق بين ذلك وبين ذبيحته؛ وتلا واختلف النحاة في }من} في قوله تعالى{مما أمسكن عليكم} فقال الأخفش: هي زائدة كقوله ودلت الآية على جواز اتخاذ الكلاب واقتنائها للصيد، وثبت ذلك في صحيح السنة وزادت الحرث والماشية؛ وقد كان أول الإسلام أمر بقتل الكلاب حتى كان يقتل كلب المرية من البادية يتبعها؛ فقلت لأصحابي أسر إليهم إذا اليوم أم يوم القيامة أطول أو لمنع دخول الملائكة البيت، أو لنجاسته على ما يراه الشافعي، أو لاقتحام النهي عن اتخاذ ما لا منفعة فيه؛ والله أعلم. وقال في إحدى الروايتين: (قيراطان) وفي الأخرى (قيراط) وذلك يحتمل أن يكون في نوعين من الكلاب أحدهما أشد أذى من الآخر؛ كالأسود الذي أمر عليه الصلاة والسلام بقتله، ولم يدخله في الاستثناء حين نهى عن قتلها فقال: وفي هذه الآية دليل على أن العالم له من الفضيلة ما ليس للجاهل؛ لأن الكلب إذا علم يكون له فضيلة على سائر الكلاب، فالإنسان إذا كان له علم أولى أن يكون له فضل على سائر الناس، لا سيما إذا عمل بما علم؛ وهذا كما روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال: لكل شيء قيمة وقيمة المرء ما يحسنه. قوله تعالى{واذكروا اسم الله عليه} أمر بالتسمية؛ قيل: عند الإرسال على الصيد، وفقه الصيد والذبح في معنى التسمية واحد، يأتي بيانه في }الأنعام}. وقيل: المراد بالتسمية هنا التسمية عند الأكل، وهو الأظهر. وفي قوله تعالى{واتقوا الله} أمر بالتقوى على الجملة، والإشارة القريبة هي ما تضمنته هذه الآيات من الأوامر. وسرعة الحساب هي من حيث كونه تعالى قد أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا؛ فلا يحتاج إلى محاولة عد ولا عقد كما يفعله الحساب؛ ولهذا قال {اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين} قوله تعالى{اليوم أحل لكم الطيبات}، أي }اليوم أكملت لكم دينكم} و}اليوم أحل لكم الطيبات} فأعاد تأكيدا أي أحل لكم الطيبات التي سألتم عنها؛ وكانت الطيبات أبيحت للمسلمين قبل نزول هذه الآية؛ فهذا جواب سؤالهم إذ قالوا: ماذا أحل لنا ؟. وقيل: أشار بذكر اليوم إلى وقت محمد صلى الله عليه وسلم كما يقال: هذه أيام فلان؛ أي هذا أوان ظهوركم وشيوع الإسلام؛ فقد أكملت بهذا دينكم، وأحللت لكم الطيبات. وقد تقدم ذكر الطيبات في الآية قبل هذا. قوله تعالى{وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} ابتداء وخبر. والطعام اسم لما يؤكل والذبائح منه، وهو هنا خاص بالذبائح عند كثير من أهل العلم بالتأويل. وأما ما حرم علينا من طعامهم فليس بداخل تحت عموم الخطاب؛ قال ابن عباس: قال الله تعالى قلت: العجب من الكيا الطبري الذي حكى الاتفاق على جواز ذبيحة أهل الكتاب، ثم أخذ يستدل بذلك على أن التسمية على الذبيحة ليست بشرط فقال: ولا شك أنهم لا يسمون على الذبيحة إلا الإله الذي ليس معبودا حقيقة مثل المسيح وعزير، ولو سموا الإله حقيقة لم تكن تسميتهم على طريق العبادة، وإنما كان على طريق آخر؛ واشتراط التسمية لا على وجه العبادة لا يعقل، ووجود التسمية من الكافر وعدمها بمثابة واحدة؛ إذا لم تتصور منه العبادة، ولأن النصراني إنما يذبح على اسم المسيح، وقد حكم الله بحل ذبائحهم مطلقا، وفي ذلك دليل على أن التسمية لا تشترط أصلا كما يقول الشافعي، وسيأتي ما في هذا للعلماء في }الأنعام} إن شاء الله تعالى. ولا خلاف بين العلماء أن ما لا يحتاج إلى ذكاة كالطعام الذي لا محاولة فيه كالفاكهة والبر جائز أكله؛ إذ لا يضر فيه تملك أحد. والطعام الذي تقع فيه محاولة على ضربين: أحدهما: ما فيه محاولة صنعة لا تعلق للدين بها؛ كخبز الدقيق، وعصر الزيت ونحوه؛ فهذا إن تجنب من الذمي فعلى وجه التقزز. والضرب الثاني: هي التذكية التي ذكرنا أنها هي التي تحتاج إلى الدين والنية؛ فلما كان القياس إلا تجوز ذبائحهم - كما نقول إنهم لا صلاة لهم ولا عبادة مقبولة - رخص الله تعالى في ذبائحهم على هذه الأمة، وأخرجها النص عن القياس على ما ذكرناه من قول ابن عباس؛ والله أعلم. واختلف العلماء أيضا فيما ذكوه هل تعمل الذكاة فيما حرم عليهم أولا ؟ على قولين؛ فالجمهور على أنها عاملة في كل الذبيحة ما حل له منها وما حرم عليه، لأنه مذكى. وقالت جماعة من أهل العلم: إنما حل لنا من ذبيحتهم ما حل لهم؛ لأن ما لا يحل لهم لا تعمل فيه تذكيتهم؛ فمنعت هذه الطائفة الطريف، والشحوم المحضة من ذبائح أهل الكتاب؛ وقصرت لفظ الطعام على البعض، وحملته الأولى على العموم في جميع ما يؤكل. وهذا الخلاف موجود في مذهب مالك. قال أبو عمر: وكره مالك شحوم اليهود وأكل ما نحروا من الإبل، وأكثر أهل العلم لا يرون بذلك بأسا؛ وسيأتي هذا في }الأنعام} إن شاء الله تعالى؛ وكان مالك رحمه الله يكره ما ذبحوه إذا وجد ما ذبحه المسلم، وكره أن يكون لهم أسواق يبيعون فيها ما يذبحون؛ وهذا منه رحمه الله تنزه. وأما المجوس فالعلماء مجمعون - إلا من شذ منهم - على أن ذبائحهم لا تؤكل، ولا يتزوج منهم؛ لأنهم ليسوا أهل كتاب على المشهور عند العلماء. ولا بأس يأكل طعام من لا كتاب له كالمشركين وعبدة الأوثان ما لم يكن من ذبائحهم ولم يحتج إلى ذكاة؛ إلا الجبن؛ لما فيه من إنفحة الميتة. فإن كان أبو الصبي مجوسيا وأمه كتابية فحكمه حكم أبيه عند مالك، وعند غيره لا تؤكل ذبيحة الصبي إذا كان أحد أبويه ممن لا تؤكل ذبيحته. وأما ذبيحة نصارى بني تغلب وذبائح كل دخيل في اليهودية والنصرانية فكان علي رضي الله عنه ينهى عن ذبائح بني تغلب؛ لأنهم عرب، ويقول: إنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر؛ وهو قول الشافعي؛ وعلى هذا فليس ينهى عن ذبائح النصارى المحققين منهم. وقال جمهور الأمة: إن ذبيحة كل نصراني حلال؛ سواء كان من بني تغلب أو غيرهم، وكذلك اليهودي. واحتج ابن عباس بقوله تعالى ولا بأس بالأكل والشرب والطبخ في آنية الكفار كلهم، ما لم تكن ذهبا أو فضة أو جلد خنزير بعد أن تغسل وتغلى؛ لأنهم لا يتوقون النجاسات ويأكلون الميتات؛ فإذا طبخوا في تلك القدور تنجست، وربما سرت النجاسات في أجزاء دور الفخار؛ فإذا طبخ فيها بعد ذلك توقع مخالطة تلك الأجزاء النجسة للمطبوخ في القدد ثانية؛ فاقتضى الورع الكف عنها. وروي عن ابن عباس أنه قال: إن كان الإناء من نحاس أو حديد غسل، وإن كان من فخار أغلي فيه الماء ثم غسل - هذا إذا احتيج إليه - وقاله مالك؛ فأما ما يستعملونه لغير الطبخ فلا بأس باستعماله من غير غسل؛ لما روى الدارقطني عن عمر أنه توضأ من بيت نصراني في حق نصرانية؛ وهو صحيح وسيأتي في }الفرقان} بكماله. قوله تعالى{وطعامكم حل لهم} دليل على أنهم مخاطبون بتفاصيل شرعنا؛ أي إذا اشتروا منا اللحم يحل لهم اللحم ويحل لنا الثمن المأخوذ منهم. قوله تعالى{والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} الآية. قد تقدم معناها في }البقرة} و}النساء} والحمد لله. وروي عن ابن عباس في قوله تعالى{والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب}. هو على العهد دون دار الحرب فيكون خاصا. وقال غيره: يجوز نكاح الذمية والحربية لعموم الآية. وروي عن ابن عباس أنه قال{المحصنات} العفيفات العاقلات. وقال الشعبي: هو أن تحصن فرجها فلا تزني، وتغتسل من الجنابة. وقرأ الشعبي }والمحصنات} بكسر الصاد، وبه قرأ الكسائي. وقال مجاهد{المحصنات} الحرائر؛ قال أبو عبيد: يذهب إلى أنه لا يحل نكاح إماء أهل الكتاب؛ لقوله تعالى قوله تعالى{ومن يكفر بالإيمان} قيل: لما قال تعالى{المحصنات من الذين أوتوا الكتاب} قال نساء أهل الكتاب: لولا أن الله تعالى رضي ديننا لم يبح لكم نكاحنا؛ فنزلت }ومن يكفر الإيمان} أي بما أنزل على محمد. وقال أبو الهيثم: الباء صلة؛ أي ومن يكفر الإيمان أي يجحده }فقد حبط عمله} وقرأ ابن السميقع }فقد حبط} بفتح الباء. وقيل: لما ذكرت فرائض وأحكام يلزم القيام بها، ذكر الوعيد على مخالفتها؛ لما في ذلك من تأكيد الزجر عن تضييعها. وروي عن ابن عباس ومجاهد أن المعنى: ومن يكفر بالله؛ قال الحسن بن الفضل: إن صحت هذه الرواية فمعناها برب الإيمان. وقال الشيخ أبو الحسن الأشعري: ولا يجوز أن يسمى الله إيمانا خلافا للحشوية والسالمية؛ لأن الإيمان مصدر آمن يؤمن إيمانا، واسم الفاعل منه مؤمن؛ والإيمان التصديق، والتصديق لا يكون إلا كلاما، ولا يجوز أن يكون الباري تعالى كلاما. {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} ذكر القشيري وابن عطية أن هذه الآية نزلت في قصة عائشة حين فقدت العقد في غزوة المريسيع، وهي آية الوضوء. قال ابن عطية: لكن من حيث كان الوضوء متقررا عندهم مستعملا، فكأن الآية لم تزدهم فيه إلا تلاوته، وإنما أعطتهم الفائدة والرخصة في التيمم. وقد ذكرنا في آية }النساء} خلاف هذا، والله أعلم. ومضمون هذه الآية داخل فيما أمر به من الوفاء بالعقود وأحكام الشرع، وفيما ذكر من إتمام النعمة؛ فإن هذه الرخصة من إتمام النعم. واختلف العلماء في المعنى المراد بقوله{إذا قمتم إلى الصلاة} على أقوال؛ فقالت طائفة: هذا لفظ عام في كل قيام إلى الصلاة، سواء كان القائم متطهرا أو محدثا؛ فإنه ينبغي له إذا قام إلى الصلاة أن يتوضأ، وكان عل يفعله ويتلو هذه الآية؛ ذكره أبو محمد الدرامي في مسنده. وروي مثله عن عكرمة. وقال ابن سيرين: كان الخلفاء يتوضؤون لكل صلاة. قلت: فالآية على هذا محكمة لا نسخ فيها. وقالت طائفة: الخطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ قال عبدالله بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة فشق ذلك عليه؛ فأمر بالسواك ورفع عنه الوضوء إلا من حدث. وقال علقمة بن الفغواء عن أبيه - وهو من الصحابة، وكان دليل رسول الله صلى الله عليه وملم إلى تبوك: نزلت هذه الآية رخصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان لا يعمل عملا إلا وهو على وضوء، ولا يكلم أحدا ولا يرد سلاما إلى غير ذلك؛ فأعلمه الله بهذه الآية أن الوضوء إنما هو قيام إلى الصلاة فقط دون سائر الأعمال. وقالت طائفة: المراد بالآية الوضوء لكل صلاة طلبا للفضل؛ وحملوا الأمر على الندب، وكان كثير من الصحابة منهم ابن عمر يتوضؤون لكل صلاة طلبا للفضل، وكان عليه الصلاة والسلام يفعل ذلك إلى أن جمع يوم الفتح بين الصلوات الخمس بوضوء واحد، إرادة البيان لأمته صلى الله عليه وسلم. قلت: وظاهر هذا القول أن الوضوء لكل صلاة قبل ورود الناسخ كان مستحبا لا إيجابا وليس كذلك؛ فإن الأمر إذا ورد، مقتضاه الوجوب؛ لا سيما عند الصحابة رضوان الله عليهم، على ما هو معروف من سيرتهم. وقال آخرون: إن الفرض في كل وضوء كان لكل صلاة ثم نسخ في فتح مكة؛ وهذا غلط قلت: وهذان التأويلان أحسن ما قيل في الآية؛ والله أعلم. ومعنى }إذا قمتم} إذا أردتم، كما قال تعالى قوله تعالى{فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ذكر تعالى أربعة أعضاء: الوجه وفرضه الغسل واليدين كذلك والرأس وفرضه المسح اتفاقا واختلف في الرجلين على ما يأتي، لم يذكر سواها فدل ذلك على أن ما عداها آداب وسنن. والله أعلم. ولا بد في غسل الوجه من نقل الماء إليه، وإمرار اليد عليه؛ وهذه حقيقة الغسل عندنا، وقد بيناه في }النساء}. وقال غيرنا: إنما عليه إجراء الماء وليس عليه دلك بيده؛ ولا شك أنه إذا انغمس الرجل في الماء وغمس وجهه أو يده ولم يدلك يقال: غسل وجهه ويده، ومعلوم أنه لا يعتبر في ذلك غير حصول الاسم، فإذا حصل كفى. والوجه في اللغة مأخوذ من المواجهة، وهو عضو مشتمل على أعضاء وله طول وعرض؛ فحده في الطول من مبتدأ سطح الجبهة إلى منتهى اللحيين، ومن الأذن إلى الأذن في العرض، وهذا في الأمرد؛ وأما الملتحي فإذا اكتسى الذقن بالشعر فلا يخلو أن يكون خفيفا أو كثيفا؛ فإن كان الأول بحيث تبين منه البشرة فلا بد من إيصال الماء إليها، وإن كان كثيفا فقد انتقل الفرض إليه كشعر الرأس؛ ثم ما زاد على الذقن من الشعر واسترسل من اللحية، فقال سحنون عن ابن القاسم: سمعت مالكا سئل: هل سمعت بع أهل العلم يقول إن اللحية من الوجه فليمر عليها الماء؟ قال: نعم، وتخليلها في الوضوء ليس من أمر الناس، وعاب ذلك على من فعله. وذكر ابن القاسم أيضا عن مالك قال: يحرك المتوضئ ظاهر لحيته من غير أن يدخل يده فيها؛ قال: وهي مثل أصابع الرجلين. قال ابن عبدالحكم: تخليل اللحية واجب في الوضوء والغسل. قال أبو عمر: قلت: واختار هذا القول ابن العربي وقال: وبه أول؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغسل لحيته، خرجه الترمذي وغيره؛ فعين المحتمل بالفعل. وحكى ابن المنذر عن إسحاق أن من ترك تخليل لحيته عامدا أعاد. قلت: وهو اختيار القاضي عبدالوهاب؛ وسبب الخلاف هل تقع عليه المواجهة أم لا؟ والله أعلم. وبسبب هذا الاحتمال اختلفوا هل يتناول الأمر بغسل الوجه باطن الأنف والفم أم لا؟ فذهب أحمد بن حنبل وإسحاق وغيرهما إلى وجوب ذلك في الوضوء والغسل، إلا أن أحمد قال: يعيد من ترك الاستنشاق في وضوئه ولا يعيد من ترك المضمضة. وقال عامة الفقهاء: هما سنتان في الوضوء والغسل؛ لأن الأمر إنما يتناول الظاهر دون الباطن، والعرب لا تسمي وجها إلا ما وقعت به المواجهة، ثم إن الله تعالى لم يذكرهما في كتابه، ولا أوجبهما المسلمون، ولا لتفق الجميع عليه؛ والفرائض لا تثبت إلا من هذه الوجوه. وقد مضى هذا المعنى في }النساء}. وأما العينان فالناس كلهم مجمعون على أن داخل العينين لا يلزم غسله، إلا ما روي عن عبدالله بن عمر أنه كان ينضح الماء في عينيه؛ وإنما سقط غسلهما للتأذي بذلك والحرج به؛ قال ابن العربي: ولذلك كان عبدالله بن عمر لما عمي يغسل عينيه إذ كان لا يتأذى بذلك؛ وإذا تقرر هذا من حكم الوجه فلا بد من غسل جزء من الرأس مع الوجه من غير تحديد، كما لا بد على القول بوجوب عموم الرأس من مسح جزء معه من الوجه لا يتقدر؛ وهذا ينبني على أصل من أصول الفقه وهو{أن ما لا يتم الواجب إلا به اجب مثله} والله أعلم. وجمهور العلماء على أن الوضوء لا بد فيه من نية؛ قال ابن العربي، قال بعض علمائنا: إن من خرج إلى النهر بنية الغسل أجزأه، وإن عزبت نيته في الطريق، ولو خرج إلى الحمام فعزبت في أثناء الطريق بطلت النية. قال القاضي أبو بكر بن العربي رضي الله عنه: فركب على هذا سفاسفة المفتين أن نية الصلاة تتخرج على القولين، وأوردوا فيها نصا عمن لا يفرق بين الظن واليقين بأنه قال: يجوز أن تتقدم فيها النية على التكبير؛ ويا لله ويا للعالمين من أمة أرادت أن تكون مفتية مجتهدة فما وفقها الله ولا سددها؛ اعلموا رحمكم الله أن النية في الوضوء مختلف في وجوبها بين العلماء، وقد اختلف فيها قول مالك؛ فلما نزلت عن مرتبة الاتفاق سومح في تقديمها في بعض المواضع، فأما الصلاة فلم يختلف أحد من الأئمة فيها، وهي أصل مقصود، فكيف يحمل الأصل المقصود المتفق عليه على الفرع التابع المختلف فيه! هل هذا إلا غاية الغباوة؟ وأما الصوم فإن الشرع رفع الحرج فيه لا كان ابتداؤه في وقت الغفلة بتقديم النية عليه. قوله تعالى{وأيديكم إلى المرافق} واختلف الناس في دخول المرافق في التحديد؛ فقال قوم: نعم؛ لأن ما بعد }إلى} إذا كان من نوع ما قبلها دخل فيه؛ قال سيبويه وغيره، وقد مضى هذا في }البقرة} مبينا. وقيل: لا يدخل المرفقان في الغسل؛ والروايتان مرويتان عن مالك؛ الثانية لأشهب؛ والأولى عليها أكثر العلماء وهو الصحيح؛ لما رواه الدارقطني عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه. وقد قال بعضهم: إن }إلى} بمعنى مع، كقولهم: الذود إلى الذود إبل، أي مع الذود، وهذا لا يحتاج إليه كما بيناه في }النساء}؛ ولأن اليد عند العرب تقع على أطراف الأصابع إلى الكتف، وكذلك الرجل تقع على الأصابع إلى أصل الفخذ؛ فالمرفق داخل تحت اسم اليد، فلو كان المعنى مع المرافق لم يفد، فلما قال{إلى} اقتطع من حد المرافق عن الغسل، وبقيت المرافق مغسولة إلى الظفر، وهذا كلام صحيح يجري على الأصول لغة ومعنى؛ قال ابن العربي: وما فهم أحد مقطع المسألة إلا القاضي أبو محمد فإنه قان: إن قوله }إلى المرافق} حد للمتروك من اليدين لا للمغسول فيه؛ ولذلك تدخل المرافق في الغسل. قلت: وما كان اليد والرجل تنطلق في اللغة على ما ذكرنا قوله تعالى{وامسحوا برؤوسكم} تقدم في }النساء} أن المسح لفظ مشترك. وأما الرأس فهو عبارة عن الجملة التي يعلمها الناس ضرورة ومنها الوجه، فلما ذكره الله عز وجل في الوضوء وعين الوجه للغسل بقي باقيه للمسح، ولو لم يذكر الغسل للزم مسح جميعه، ما عليه شعر من الرأس وما فيه العينان والأنف والفم؛ وقد أشار مالك في وجوب مسح الرأس إلى ما ذكرناه؛ فإنه سئل عن الذي يترك بعض رأسه في الوضوء فقال: أرأيت إن ترك غسل بعض وجهه أكان يجزئه؟ ووضح بهذا الذي ذكرناه أن الأذنين من الرأس، وأن حكمهما حكم الرأس خلافا للزهري، حيث قال: هما من الوجه يغسلان معه، وخلافا للشعبي، حيث قال: ما أقبل منهما من الوجه وظاهرهما من الرأس؛ وهو قول الحسن وإسحاق، وحكاه ابن أبي هريرة عن الشافعي، وسيأتي بيان حجتهما؛ وإنما سمي الرأس رأسا لعلوه ونبات الشعر فيه، ومنه رأس الجبل؛ وإنما قلنا إن الرأس اسم لجملة أعضاء لقول الشاعر: واختلف العلماء في تقدير مسحه على أحد عشر قولا؛ ثلاثة لأبي حنيفة، وقولان للشافعي، وستة أقوال لعلمائنا؛ والصحيح منها واحد وهو وجوب التعميم لما ذكرناه. وأجمع العلماء على أن مسح رأسه كله فقد أحسن وفعل ما يلزمه؛ والباء مؤكدة زائدة ليست للتبعيض: والمعنى وامسحوا رؤوسكم. وقيل: دخولها حسن كدخولها في التيمم في قوله{فامسحوا بوجوهكم} فلو كان معناها التبعيض لإفادته في ذلك الموضع، وهذا قاطع. وقيل: إنما دخلت لتفيد معنى بديعا وهو أن الغسل لغة يقتضي مغسولا به، والمسح لغة لا يقتضي ممسوحا به؛ فلو قال: وامسحوا رؤوسكم لأجزأ المسح باليد إمرارا من غير شيء على الرأس؛ فدخلت الباء لتفيد ممسوحا به وهو الماء، فكأنه قال: وامسحوا برؤوسكم الماء؛ وذلك فصيح في اللغة على وجهين؛ إما على القلب كما أنشد سيبويه: واللثة هي الممسوحة بعصف الإثمد فقلب، وإما على الاشتراك في الفعل والتساوي في نسبته كقول الشاعر: فهذا ما لعلمائنا في معنى الباء. وقال الشافعي: احتمل قول الله تعالى{وامسحوا برؤوسكم} بعض الرأس ومسح جميعه فدلت السنة أن مسح بعضه يجزئ، وهو أن النبي صلى الله علبه وسلم مسح بناصيته؛ وقال في موضع آخر: فإن قيل قد قال الله عز وجل{فامسحوا بوجوهكم} في التيمم أيجزئ بعض الوجه فيه؟ قيل له: مسح الوجه في التيمم بدل من غسله؛ فلا بد أن يأتي بالمسح على جميع موضع الغسل منه، ومسح الرأس أصل؛ فهذأ فرق ما بينهما. أجاب علماؤنا عن الحديث بأن قالوا: لعل النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لعذر لا سيما وكان هذا الفعل منه صلى الله عليه وسلم في السفر وهو مظنة الأعذار، وموضع الاستعجال والاختصار، وحذف كثير من الفرائض لأجل المشقات والأخطار؛ ثم هو لم يكتف بالناصية حتى مسح على العمامة؛ أخرجه مسلم من حديث المغيرة بن شعبة؛ فلو لم يكن مسح جميع الرأس واجبا لما مسح على العمامة؛ والله أعلم. وجمهور العلماء على أن مسحة واحدة موعبة كاملة تجزئ. وقال الشافعي: يمسح رأسه ثلاثا؛ وروي عن أنس وسعيد بن جبير وعطاء. وكان ابن سيرين يمسح مرتين. قال أبو داود: وأحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس مرة؛ فإنهم ذكروا الوضوء ثلاثا، قالوا فيها: ومسح برأسه ولم يذكروا عددا. واختلفوا من أين يبدأ بمسحه؛ فقال مالك: يبدأ بمقدم رأسه، ثم يذهب بيديه إلى مؤخره، ثم يردهما إلى مقدمه؛ على حديث عبدالله بن زيد أخرجه مسلم؛ وبه يقول الشافعي وابن حنبل. وكان الحسن بن حي يقول: يبدأ مؤخر الرأس؛ على حديث الربيع بنت معوذ بن عفراء؛ وهو حديث يختلف في ألفاظه، وهو يدور. على عبدالله بن محمد بن عقيل وليس بالحافظ عندهم؛ أخرجه أبو داود من رواية بشر بن المفضل عن عبدالله عن الربيع، وروي ابن عجلان عنه عن الربيع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ عندنا فمسح الرأس كله من قرن الشعر كل ناحية بمنصب الشعر، لا يحرك الشعر عن هيئته؛ ورويت هذه الصفة عن ابن عمر، وأنه كان يبدأ من وسط رأسه. وأصح ما في هذا الباب حديث عبدالله بن زيد؛ وكل من أجاز بعض الرأس فإنما يرى ذلك البعض في مقدم الرأس. وروي عن إبراهيم والشعبي أنهما قالا: أي نواحي رأسك مسحت أجزأ عنك. ومسح عمر اليافوخ فقط. والإجماع منعقد على استحسان المسح باليدين معا، وعلى الإجزاء إن مسح بيد واحدة. واختلف فيمن مسح بإصبع واحدة حتى عم ما يرى أنه يجزئه من الرأس؛ فالمشهور أن ذلك يجزئ، وهو قول سفيان الثوري؛ قال سفيان: إن مسح رأسه بإصبع واحدة أجزأه. وقيل: إن ذلك لا يجزئ؛ لأنه خروج عن سنة المسح وكأنه لعب، إلا أن يكون ذلك عن ضرورة مرض فينبغي ألا تل يختلف في الإجزاء. قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: لا يجزئ مسح الرأس بأقل من ثلاث أصابع؛ واختلفوا في رد اليدين على شعر الرأس هل هو فرض أو سنة - بعد الإجماع على أن المسحة الأولى فرض بالقرآن - فالجمهور على أنه سنة. وقيل: هو فرض. فلو غسل متوضئ رأسه بدل المسح فقال ابن العربي: لا نعلم خلافا أن ذلك يجزئه، إلا ما أخبرنا الإمام فخر الإسلام الشاشي في الدرس عن أبي العباس ابن القاص من أصحابهم قال: لا يجزئه، وهذا تولج في مذهب الداودية الفاسد من أتباع الظاهر المبطل للشريعة الذي ذمه الله في قوله وأما الأذنان فهما الرأس عند مالك وأحمد والثوري وأبي حنيفة وغيرهم، ثم اختلفوا في تجديد الماء؛ فقال مالك وأحمد: يستأنف لهما ماء جديدا سوى الماء الذي مسح به الرأس، على ما فعل ابن عمر؛ وهكذا قال الشافعي في تجديد الماء، وقال: هما سنة على حالهما لا من الوجه ولا من الرأس؛ لاتفاق العلماء على أنه لا يحلق ما عليهما من الشعر في الحج؛ وقول أبي ثور في هذا كقول الشافعي. وقال الثوري وأبو حنيفة: يمسحان مع الرأس بماء واحد؛ وروي عن جماعة من السلف مثل هذا القول من الصحابة والتابعين. وقال داود: إن مسح أذنيه فحسن، وإلا فلا شيء عليه؛ إذ ليستا مذكورتين في القرآن. قيل له: اسم الرأس تضمنهما كما بيناه. وقد جاءت قوله تعالى{وأرجلكم} قرأ نافع وابن عامر والكسائي }وأرجلكم} بالنصب؛ وروى الوليد بن مسلم عن نافع أنه قرأ }وأرجلكم} بالرفع وهي قراءة الحسن والأعمش سليمان؛ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة }وأرجلكم} بالخفض ويحسب هذه القراءات اختلف الصحابة والتابعون؛ فمن قرأ بالنصب جعل العام }اغسلوا} وبنى على أن الفرض في الرجلين الغسل دون المسح، وهذا مذهب الجمهور والكافة من العلماء، وهو الثابت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، واللازم من قول في غير ما حديث، وقد رأى قوما يتوضؤون وأعقابهم تلوح فنادى بأعلى صوته قلت: قد روي عن ابن عباس أنه قال: الوضوء غسلتان ومسحتان. وروي أن الحجاج خطب بالأهواز فذكر الوضوء فقال: اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم، فإنه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيهما. فسمع ذلك أنس بن مالك فقال: صدق الله وكذب الحجاج؛ قال الله وتعالى{وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم}. قال: وكان إذا مسح رجليه بلهما، وروي عن أنس أيضا أنه قال: نزل القرآن بالمسح والسنة بالغسل. وكان عكرمة يمسح رجليه وقال: ليس في الرجلين غسل إنما نزل فيه المسح. وقال عامر الشعبي: نزل جبريل بالمسح؛ ألا ترى أن التيمم يمسح فيه ما كان غسلا، ويلغي ما كان مسحا. وقال قتادة: افترض الله غسلتين ومسح. وذهب ابن جرير الطبري إلى أن فرضهما التخيير بين الغسل والمسح، وجعل القراءتين كالروايتين؛ قال النحاس: ومن أحسن ما قيل فيه؛ أن المسح والغسل واجبان جميعا، فالمسح واجب على قراءة من قرأ بالخفض، والغسل واجب على قراءة من قرأ بالنصب، والقراءتان بمنزلة آيتين. قال ابن عطية: وذهب قوم ممن يقرأ بالكسر إلى أن المسح في الرجلين هو الغسل. قلت: وهو الصحيح؛ فإن لفظ المسح مشترك، يطلق بمعنى المسح ويطلق بمعنى الغسل؛ قال الهروي: أخبرنا الأزهري أخبرنا أبو بكر محمد بن عثمان بن سعيد الداري عن أبي حاتم عن أبي زيد الأنصاري قال: المسح في كلام العرب يكون غسلا ويكون مسحا، ومنه يقال للرجل إذا توضأ فغسل أعضاءه: قد تمسح؛ ويقال: مسح الله ما بك إذا غسلك وطهرك من الذنوب، فإذا ثبت بالنقل عن العرب أن المسح يكون بمعنى الغسل فترجح قول من قال: إن المراد بقراءة الخفض الغسل؛ بقراءة النصب التي لا احتمال فيها، وبكثرة الأحاديث الثابتة بالغسل، والتوعد على ترك غسلها في أخبار صحاح لا تحصى كثرة أخرجها الأئمة؛ ثم إن المسح في الرأس إنما دخل بين ما يغسل لبيان الترتيب على أنه مفعول قبل الرجلين، التقدير فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برؤوسكم؛ فلما كان الرأس مفعولا قبل الرجلين قدم عليهما في التلاوة - والله أعلم - لا أنهما مشتركان مع الرأس لتقدمه عليهما في صفة التطهير. وقد روى عاصم بن كليب عن أبي عبدالرحمن السلمي قال: قرأ الحسن والحسين - رحمة الله عليهما - (وأرجلكم) فسمع علي ذلك وكان يقضي بين الناس فقال: (وأرجلكم) هذا من المقدم والمؤخر من الكلام. وروى أبو إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال: اغسلوا الأقدام إلى الكعبين. وكذا روي عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قرأ (وأرجلكم) بالنصب. وقد قيل: إن الخفض في الرجلين إنما جاء مقيد لمسحهما لكن إذا كان عليهما خفان، وتلقينا هذا القيد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لم يصح عنه أنه مسح رجليه إلا وعليهما خفان، فبين صلى الله عليه وسلم بفعله الحال التي غسل فيه الرجل والحال التي تمسح فيه، وهذا حسن. فإن قيل: إن المسح على الخفين منسوخ بسورة (المائدة) - وقد قال ابن عباس، ورد المسح أبو هريرة وعائشة، وأنكره مالك في رواية عنه - فالجواب أن من نفى شيئا وأثبته غيره فلا حجة للنافي، وقد أثبت المسح على الخفين عدد كثير من الصحابة وغيرهم، وقد قال الحسن: حدثني سبعون رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم مسحوا على الخفين؛ وقد ثبت بالنقل الصحيح عن همام قال: بال جرير ثم توضأ ومسح على خفيه؛ قال إبراهيم النخعي: وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه. وقال إبراهيم النخعي: كان يعجبهم هذا الحديث؛ لأن إسلام جرير كان بعد نزول (المائدة) وهذا نص يرد ما ذكروه وما احتجوا به من رواية الواقدي عن عبدالحميد بن جعفر عن أبيه أن جريرا أسلم في ستة عشر من شهر رمضان، وأن (المائدة) نزلت في ذي الحجة يوم عرفات، وهذا حديث لا يثبت لوهاه ؟؟؛ وإنما نزل منها يوم عرفة }اليوم أكملت لكم دينكم} على ما تقدم؛ قال أحمد بن حنبل: أنا استحسن حديث جرير في المسح على الخفين؛ لأن إسلامه كان بعد نزول (المائدة) وأما ما روي عن أبي هريرة وعائشة رضي الله عنهما فلا يصح، أما عائشة فلم يكن عندها بذلك علم؛ ولذلك ردت السائل إلى علي رضي الله عنه وأحالته عليه فقالت: سله فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ الحديث. وأما مالك فما روي عنه من الإنكار فهو منكر لا يصح، والصحيح ما قاله عند موته لابن نافع قال: إني كنت أخذ في خاصة نفسي بالطهور ولا أرى من مسح مقصرا فيما بجب عليه. وعلى هذا حمل أحمد بن حنبل ما رواه ابن وهب عنه أنه قال: لا أمسح في حضر ولا سفر. قال أحمد: كما روي عن ابن عمر أنه أمرهم أن يمسحوا خفافهم وخلع هو وتوضأ وقال: حبب إلى الوضوء؛ ونحوه عن أبي أيوب. وقال أحمد رضي الله عنه: فمن ترك ذلك على نحو ما تركه ابن عمر وأبو أيوب ومالك لم أنكره عليه، وصلينا خلفه ولم نعبه، إلا أن يترك ذلك ولا يراه كما صنع أهل البدع، فلا صلى خلفه. واله أعلم. وقد قيل: إن قوله }وأرجلكم} معطوف على اللفظ دون المعنى، وهذا أيضا يدل على الغسل فإن المراعى المعنى لا اللفظ، وإنما خفض للجوار كما تفعل العرب؛ وقد جاء هذا في القرآن وغيره قال الله تعالى فخفض مزمل بالجوار، وأن المزمل الرجل وإعرابه الرفع؛ قال زهير: قال أبو حاتم: كان الوجه القطر بالرفع ولكنه جره على جوار المور؛ كما قالت العرب: هذا جحر ضب خرب؛ فجروه وإنما هو رفع. وهذا مذهب الأخفش وأبي عبيدة ورده النحاس وقال: هذا القول غلط عظيم؛ لأن الجوار لا يكون في الكلام أن يقاس عليه، وإنما هو غلط ونظيره الإقواء. قلت: والقاطع في الباب من أن فرض الرجلين الغسل ما قدمناه، وقال آخر: وقال آخر: وقال آخر: التقدير: علفتها تبنا وسقيتها ماء. ومتقلدا سيفا وحاملا رمحا. وأطفلت بالجهلتين ظباؤها وفرخت نعامها؛ والنعام لا يطفل إنما يفرخ. وأطفلت كان لها أطفال، والجهلتان جنبتا الوادي. وشراب ألبان وأكل تمر؛ فيكون قوله{وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم} عطف بالغسل على المسح حملا على المعنى والمراد الغسل؛ والله أعلم. قوله تعالى{إلى الكعبين} قلت: هذا هو الصحيح لغة وسنة فإن الكعب في كلام العرب مأخوذ من العلو ومنه سميت الكعبة؛ وكعبت المرأة إذا فلك ثديها، وكعب القناة أنبوبها، وأنبوب ما بين كل عقدتين كعب، وقد يستعمل في الشرف والمجد تشبيها، قلت: الصحيح أنه لا يجزئه فيهما إلا غسل ما بينهما كسائر الرجل إذ ذلك من الرجل، كما أن ما بين أصابع اليد من اليد، ولا اعتبار بانفراج أصابع اليدين وانضمام أصابع الرجلين، فإن الإنسان مأمور بغسل الرجل جميعها كما هو مأمور بغسل اليد جميعها. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا توضأ يدلك أصابع رجليه بخنصره، مع ما ثبت أنه عليه الصلاة والسلام كان يغسل رجليه؛ وهذا يقتضي العموم. وقد كان مالك رحمه الله في آخر عمره يدلك أصابع رجليه بخنصره أو ببعض أصابعه ألفاظ الآية تقتضي الموالاة بين الأعضاء، وهي إتباع المتوضئ الفعل الفعل إلى آخره من غير تراخ بين أبعاضه، ولا فصل بفعل ليس منه؛ واختلف العلماء في ذلك؛ فقال ابن أبي سلمة وابن وهب: ذلك من فروض الوضوء في الذكر والنسيان، فمن فرق بين أعضاء وضوئه متعمدا أو ناسيا لم يجزه. وقال ابن عبدالحكم: يجزئه ناسيا ومتعمدا. وقال مالك في }المدونة} وكتاب محمد: إن الموالاة ساقطة؛ وبه قال الشافعي. وقال مالك وابن القاسم: إن فرقه متعمدا لم يجزه ويجزئه ناسيا؛ وقال مالك في رواية ابن حبيب: يجزئه في المغسول ولا يجزئه في الممسوح؛ فهذه خمسة أقوال ابتنيت على أصلين: الأول: أن الله سبحانه وتعالى أمر أمرا مطلقا فوال أو فرق، وإنما المقصود وجود الغسل في جميع الأعضاء عند القيام إلى الصلاة. والثاني: أنها عبادات ذات أركان مختلفة فوجب فيها التوالي كالصلاة؛ وهذا أصح. والله أعلم. وتتضمن ألفاظ الآية أيضا الترتيب وقد اختلف فيه؛ فقال الأبهري: الترتيب سنة، وظاهر المذهب أن التنكيس للناسي يجزئ، واختلف في العامد فقيل: يجزئ ويرتب في المستقبل. وقال أبو بكر القاضي وغيره: لا يجزئ لأنه عابت، وإلى هذا ذهب الشافعي وسائر أصحابه، وبه يقول أحمد بن حنبل وأبو عبيد القاسم بن سلام وإسحاق وأبو ثور، وإليه ذهب أبو مصعب صاحب مالك وذكره في مختصره، وحكاه عن أهل المدينة ومالك معهم في أن من قدم في الوضوء يديه على وجهه، ولم يتوضأ على ترتيب الآية فعليه الإعادة لما صلى بذلك الوضوء. وذهب مالك في أكثر الروايات عنه وأشهرها أن }الواو} لا توجب التعقيب ولا تعطى رتبة، وبذلك قال أصحابه وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي والليث بن سعد والمزني وداود بن علي؛ قال الكيا الطبري ظاهر قوله تعالى{فاغسلوا وجوهكم وأيديكم} يقتضي الإجزاء فرق أو جمع أو والى على ما هو الصحيح من مذهب الشافعي، وهو مذهب الأكثرين من العلماء. قال أبو عمر: إلا أن مالكا يستحب له استئناف الوضوء على النسق لما يستقبل من الصلاة، ولا يرى ذلك واجبا عليه؛ هذا تحصيل مذهبه. وقد روي علي بن زياد عن مالك قال: من غسل ذراعيه ثم وجهه ثم ذكر مكانه أعاد غسل ذراعيه، وإن لم يذكر حتى صلى أعاد الوضوء والصلاة؛ قال علي ثم قال بعد ذلك: لا يعيد الصلاة ويعيد الوضوء لما يستأنف. وسبب الخلاف ما قال بعضهم: إن }الفاء} توجب التعقيب في قوله{فاغسلوا} فإنها لما كانت جوابا للشرط ربطت المشروط به، فاقتضت الترتيب في الجميع؛ وأجيب بأنه إنما اقتضت البداءة في الوجه إذ هو جزاء الشرط وجوابه، وإنما كنت تقتضي الترتيب في الجميع لو كان جواب الشرط معنى واحدا، فإذا كنت جملا كلها جوابا لم تبال بأيه بدأت، إذ المطلوب تحصيلها. قيل: إن الترتيب إنما جاء من قبل الواو؛ وليس كذلك لأنك تقول: تقاتل زيد وعمرو، وتخاصم بكر وخالد، فدخولها في باب المفاعلة يخرجها عن الترتيب. والصحيح أن يقال: إن الترتيب متلقي من وجوه أربعة: الأول: إذا كان في الاشتغال بالوضوء فوات الوقت لم يتيمم عند أكثر العلماء، ومالك يجوز التيمم في مثل ذلك؛ لأن التيمم إنما جاء في الأصل لحفظ وقت الصلاة، ولولا ذلك لوجب تأخير الصلاة إلى حين وجود الماء. احتج الجمهور بقوله تعالى{فلم تجدوا ماء فتيمموا} وهذا واجد، فقد عدم شرط صحة التيمم فلا يتيمم. وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن إزالة النجاسة ليست بواجبة؛ لأنه قال{إذ قمتم إلى الصلاة} ولم يذكر الاستنجاء وذكر الوضوء، فلو كانت إزالتها واجبة لكانت أول مبدوء به؛ وهو قول أصحاب أبي حنيفة، وهي رواية أشهب عن مالك. وقال ابن وهب عن مالك: إزالتها واجبة في الذكر والنسيان؛ وهو قول الشافعي. وقال ابن القاسم: تجب إزالتها مع الذكر، وتسقط مع النسيان. وقال أبو حنيفة: تجب إزالة النجاسة إذا زادت على قدر الدرهم البغلي - يريد الكبير الذي هو على هيئة المثقال - قياسا على فم المخرج المعتاد الذي عفي عنه. ودلت الآية أيضا على المسح على الخفين كما بينا، ولمالك في ذلك ثلاث روايات: الإنكار مطلقا كما يقول الخوارج، وهذه الرواية منكرة وليست بصحيحة. وقد تقدم. الثانية: يمسح في السفر دون الحضر؛ لأن أكثر الأحاديث بالمسح إنما هي في السفر؛ وحديث السباطة يدل على جواز المسح في الحضر، أخرجه مسلم من حديث حذيفة قال: فلقد رأيتني أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نتماشى؛ فأتى سباطة قوم خلف حائط، فقام كما يقوم أحدكم فبال فانتبذت منه، فأشار إلى فجئت فقمت عند عقبه حتى فرغ - زاد في رواية - فتوضأ ومسح على خفيه. ومثله حديث شريح بن هانئ قال: أتيت عائشة أسألها عن المسح على الخفين فقالت: عليك بابن أبي طالب فسله؛ فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فسألناه فقال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم سافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوما وليلة؛ - وهي الرواية الثالثة - يمسح حضرا وسفرا؛ وقد تقدم ذكرها. ويمسح المسافر عند مالك على الخفين بغير توقيت، وهو قول الليث بن سعد؛ قال ابن وهب سمعت مالكا يقول: ليس عند أهل بلدنا في ذلك وقت. والمسح عند جميعهم لمن لبس خفيه على وضوء؛ ويجوز عند مالك المسح على الخف وإن كان فيه خرق يسير: قال ابن خويز منداد: معناه أن يكون الخرق لا يمنع من الانتفاع به ومن لبسه، ويكون مثله يمشى فيه. وبمثل قول مالك هذا قال الليث والثوري والشافعي والطبري؛ وقد روي عن الثوري والطبري إجازة المسح على الخف المخرق جملة. وقال الأوزاعي: يمسح على الخف وعلى ما ظهر من القدم؛ وهو قول الطبري. وقال أبو حنيفة: إذا كان ما ظهر من الرجل أقل من ثلاث أصابع مسح، ولا يمسح ذا ظهر ثلاث؛ وهذا تحديد يحتاج إلى توقيف. ومعلوم أن أخفاف الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم من التابعين كانت لا تسلم من الخرق اليسير، وذلك متجاوز عند الجمهور منهم. وروي عن الشافعي إذا كان الخرق في مقدم الرجل أنه لا يجوز المسح عليه. وقال الحسن بن حي: يمسح على الخف إذا كان ما ظهر منه يغطيه الجورب، فإن ظهر شيء من القدم لم يمسح، قال أبو عمر: هذا على مذهبه في المسح على الجوربين إذا كانا ثخينين؛ وهو قول الثوري وأبي يوسف ومحمد ولا يجوز المسح على الجوربين عند أبي حنيفة والشافعي إلا أن يكونا مجلدين، وهو أحد قولي مالك. وله قول آخر أنه لا يجوز المسح على الجوربين وإن كانا مجلدين. وفي كتاب أبي داود عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الجوربين والنعلين؛ قال أبو داود: وكان عبدالرحمن بن مهدي لا يحدث بهذا الحديث؛ لأن المعروف عن المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين؛ وروي هذا الحديث عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس بالقوي ولا بالمتصل. قال أبو داود: ومسح على الجوربين علي بن أبي طالب وأبو مسعود والبراء بن عازب وأنس بن مالك وأبو أمامة وسهل بن سعد وعمرو بن حريث؛ وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عباس؛ رضي الله عنهم أجمعين. قلت: وأما المسح على النعلين فروى أبو محمد الدرامي في مسنده حدثنا أبو نعيم أخبرنا يونس عن أبي إسحاق عن عبد خير قال: رأيت عليا توضأ ومسح على النعلين فوسع ثم قال: لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كما رأيتموني فعلت لرأيت أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما؛ قال أبو محمد الدارمي رحمه الله: هذا الحديث منسوخ بقوله تعالى{فامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين}. قلت: وقول علي - رضي الله عنه - لرأيت أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما مثله قال في المسح على الخفين، أخرجه أبو داود عنه قال: لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه. قال مالك والشافعي فيمن مسح ظهور خفيه دون بطونهما: إن ذلك يجزئه؛ إلا أن مالكا قال: من فعل ذلك أعاد في الوقت؛ ومن مسح على باطن الخفين دون ظاهرهما يجزه؛ وكان عليه الإعادة في الوقت وبعده؛ وكذلك قال جميع أصحاب مالك إلا شيء روي عن أشهب أنه قال: باطن الخفين وظاهرهما سواء، ومن مسح باطنهما دون ظاهرهما لم يعد إلا في الوقت. وروي عن الشافعي أنه قال يجزئه مسح بطونهما دون ظهورهما؛ والمشهور من مذهبه أنه مسح بطونهما واقتصر عليهما لم يجزه وليس بماسح. وقال أبو حنيفة والثوري: يمسح ظاهري الخفين دون باطنهما؛ وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق وجماعة، والمختار عند مالك والشافعي وأصحابهما مسح الأعلى والأسفل، وهو قول ابن عمر وابن شهاب؛ لما واختلفوا فيمن نزع خفيه وقد مسح عليهما على أقوال ثلاثة: الأول: يغسل رجليه مكانه وإن أخر استأنف الوضوء؛ قاله مالك والليث، وكذلك قال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم؛ وروي عن الأوزاعي والنخعي ولم يذكروا مكانه. الثاني: يستأنف الوضوء؛ قاله الحسن بن حي الأوزاعي والنخعي ولم يذكروا مكانه. الثاني: يستأنف الوضوء؛ قاله ابن أبي ليلى والحسن البصري، وهي رواية عن إبراهيم النخعي رضي الله عنهم. قوله تعالى{وإن كنتم جنبا فاطهروا} وقد مضى في }النساء} معنى الجنب. و}اطهروا} أمر بالاغتسال بالماء؛ ولذلك رأى عمر وابن مسعود - رضي الله عنهما - أن الجنب لا تيمم البتة بل يدع الصلاة حتى يجد الماء. وقال الجمهور من الناس: بل هذه العبارة هي لواجد الماء، وقد ذكر الجنب بعد في أحكام عادم الماء بقوله{أو لامستم النساء} والملامسة هنا الجماع؛ وقد صح عن عمر وابن مسعود أنهما رجعا إلى ما عليه الناس وأن الجنب يتيمم. قوله تعالى{وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط} تقدم في }النساء} مستوفى، ونزيد هنا مسألة أصولية أغفلناها هناك، وهي تخصيص العموم بالعادة الغالبة، فإن الغائط كناية عن الأحداث الخارجة من المخرجين كما بيناه في }النساء} فهو عام، غير أن جل علمائنا خصصوا ذلك بالأحداث المعتادة الخارجة على الوجه المعتاد، فلو خرج غير المعتاد كالحصى والدود، أو خرج المعتاد على وجه السل والمرض لم يكن شيء من ذلك ناقضا. وإنما صاروا إلى اللفظ؛ لأن اللفظ مهما تقرر لمدلوله عرف غالب في الاستعمال، سبق ذلك الغالب لفهم السامع حالة الإطلاق، وصار غيره مما وضع له اللفظ بعيدا عن الذهن، فصار غير مدلول له، وصار الحال فيه كالحال في الدابة؛ فإنها إذا أطلقت سبق منها الذهن إلى ذوات الأربع، ولم تخطر النملة ببال السامع فصارت غير مرادة ولا مدلولة لذلك اللفظ ظاهرا. والمخالف يقول: لا يلزم من أسبقية الغالب أن يكون النادر غير مراد؛ فإن تناول اللفظ لهما واحد وضعا، وذلك يدل على شعور المتكلم بهما قصدا؛ والأول أصح، وتتمته في كتب الأصول. قوله تعالى{أو لامستم النساء} روي عبيدة عن عبدالله بن مسعود أنه قال: القبلة من اللمس، وكل ما دون الجماع لمس؛ وكذلك قال ابن عمر واختاره محمد بن يزيد قال: لأن قد ذكر في أول الآية ما يجب على من جامع في قوله{وإن كنتم جنبا فاطهروا}. وقال عبدالله بن عباس: اللمس والمس والغشيان الجماع، ولكنه عز وجل يكني. وقال مجاهد في قوله عز وجل قوله تعالى{فلم تجدوا ماء} قد تقدم في }النساء} أن عدمه يترتب للصحيح الحاضر أن يسجن أو يربط، وهو الذي يقال فيه: إنه إن لم يجد ماء ولا ترابا وخشي خروج الوقت؛ اختلف الفقهاء في حكمه على أربعة أقوال: الأول: قال ابن خويز منداد: الصحيح على مذهب مالك بأنه لا يصلي ولا شيء عليه؛ قال: ورواه المدنيون عن مالك؛ قال: وهو الصحيح من المذهب. وقال ابن القاسم: يصلي ويعيد؛ وهو قول الشافعي. وقال أشهب: يصلي ولا يعيد. وقال أصبغ: لا يصلي ولا يقضي؛ وبه قال أبو حنيفة. قال أبو عمر بن عبدالبر: ما أعرف كيف أقدم بن خويز منداد على أن جعل الصحيح من المذهب ما ذكر، وعلى خلافه جمهور السلف وعامة الفقهاء وجماعة المالكيين. وأظنه ذهب إلى ظاهر حديث مالك في قوله: وليسوا على ماء - الحديث - ولم يذكر أنهم صلوا؛ وهذا لا حجة فيه. وقده ذكر هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في هذا الحديث أنهم صلوا بغير وضوء ولم يذكر إعادة؛ وقد ذهب إلى هذا طائفة من الفقهاء. قال أبو ثور: وهو القياس. قلت: وقد احتج المزني فيما ذكره الكيا الطبري بما ذكر في قصة القلادة عن عائشة رضي الله عنها حين ضلت، وأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين بعثهم لطلب القلادة صلوا بغير تيمم ولا وضوء وأخبروه بذلك، ثم نزلت آية التيمم ولم ينكر عليهم فعلها بلا وضوء ولا تيمم، والتيمم متى لم مشروعا فقد صلوا بلا طهارة أصلا. ومنه قال المزني: ولا إعادة، وهو نص في جواز الصلاة مع عدم الطهارة مطلقا عند تعذر الوصول إليها؛ قال أبو عمر: ولا ينبغي حمله على المغمي عليه لأن المغمى عليه مغلوب على عقله وهذا معه عقله. وقال ابن القاسم وسائر العلماء: الصلاة عليه واجبة إذا كان معه عقله، فإذا زال المانع له توضأ أو تيمم وصلى. وعن الشافعي روايتان؛ المشهور عنه يصلي كما هو ويعيد؛ قال المزني: إذا كان محبوسا لا يقدر على تراب نظيف صلى وأعاد؛ وهو قول أبي يوسف ومحمد والثوري والطبري. وقال زفر بن الهذيل: المحبوس في الحضر لا يصلي وإن وجد ترابا نظيفا. وهذا على أصله فإنه لا يتيمم عنده في الحضر كما تقدم. وقال أبو عمر: من قال يصلي كما هو ويعيد إذا قدر على الطهارة فإنهم احتاطوا للصلاة بغير طهور؛ قالوا: قوله تعالى{فتيمموا صعيدا طيبا} قد مضى في }النساء} اختلافهم في الصعيد، وحديث عمران بن حصين نص على ما يقول مالك، إذ لو كان الصعيد التراب لقال عليه السلام للرجل عليك بالتراب فإنه يكفيك، فلما قال: (عليك بالصعيد) أحال على وجه الأرض. والله أعلم. }فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} تقدم في }النساء} الكلام فيه فتأمله هناك. وإذا انتهى القول بنا في الآي إلى هنا فاعلم أن العلماء تكلموا في فضل الوضوء والطهارة وهي خاتمة الباب: قوله تعالى{ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج} أي من ضيق في الدين؛ دليله قوله تعالى
|